صديقي جيمس مثَله كمثل شريحة كبيرة من الأمريكيين المحافظين، متشكك في سياسات الديموقراطيين، ومتوجس في توجهاتهم العالمية، ويعتقد أن طبقة النبلاء الحاكمة في بلاده تتعمد استضافة البشر من جميع أنحاء العالم لتغيير الطبيعة الديموغرافية لبلاده، وكسر مقاومة المحافظين عن طريق صناديق الانتخابات، وتعمل تلك النخب الحاكمة (الدولة العميقة) على إفساد الرأسمالية، وإنشاء نظام إقطاعي جديد يبتلع مناطق واسعة من العالم. الاستعمار في معجم جيمس تدرج في أربع مراحل بدءا بحقبة الإمبراطوريات التي استعمرت العالم القديم، ثم عصبة الأمم المتحدة، فالأمم المتحدة لنصل إلى النسخة الرابعة المتمثلة في العولمة. الجزم بما ذهب إليه الصديق العزيز من أن العولمة شكل جديد من أشكال الاستعمار مهمة كؤود، فهناك تعقيدات وجدل لم يحسم بعد. من يقولون إن العولمة من أضرب الاستعمار لهم حجج قوية، وللمعارضين حججهم أيضًا. تحرير المصطلحات قد يساعد في سبر هذه الإشكالات ببعض السلاسة. العولمة هي الترابط المتزايد بين اقتصادات العالم وثقافاته وسياساته، مدفوعة بعوامل مثل تحرير التجارة، والتقدم التكنولوجي، وصعود الشركات متعددة الجنسيات. أما الاستعمار فهو سيطرة سياسية مباشرة من قبل دولة على أخرى، وعادة ما تنطوي على استغلال الموارد والعمالة، إذا لم يكن استعباد الشعوب المستعمرة وسرقة ثرواتها. الذي يجعل العولمة استعمارًا جديدًا هو هيمنتها الاقتصادية، فالدول المتقدمة تكرس التجارة العالمية لاستغلال الدول النامية، أخذًا في الاعتبار شروط التجارة غير المتكافئة، وممارسات العمل غير العادلة، واحتكار الموارد فيما يشبه الاستعمار الاقتصادي. يضاف للبعد الاقتصادي الهيمنة الثقافية، الماثلة في اكتساح الثقافة الغربية المجتمعات البشرية بسبب تحكم الدول الصناعية الغربية في تدفق المعلومات من الشمال إلى الجنوب، والترويج للنزعة الاستهلاكية، والثقافة الشعبية (الكاجوال) وهو ما يمكن اعتباره شكلاً من أشكال الإمبريالية الثقافية، مما يقوض التقاليد والهويات المحلية. ليست الهيمنة الاقتصادية والثقافية فحسب، وإنما تتسبب العولمة في فقدان السيادة حيث يُنظر إلى النفوذ المتزايد للمنظمات الدولية، وهياكل الإدارة العالمية على أنها تفضي إلى تآكل سيادة الدول القومية، وخاصة دول العالم الثالث. غير أن الرافضين لتصنيف العولمة نسخة رابعة من نسخ الاستعمار يدفعون بأن العولمة تعزز المنافع المتبادلة، وتوفر فرصًا للدول النامية للمشاركة في الاقتصاد العالمي، والوصول إلى أسواق وتقنيات جديدة، وتحسين مستويات المعيشة. ويشيرون إلى أمثلة على التنمية الاقتصادية الناجحة والحد من الفقر التي سهلتها العولمة. إضافة إلى أن التواصل الوثيق اقتصاديا وثقافيًا بين أطراف العالم يمثل قوة إيجابية، ويعزز التعاون والمسؤولية المشتركة لمواجهة التحديات العالمية مثل تغير المناخ والأوبئة. كما أن ديناميكيات القوة المتطورة المتمثلة في صعود قوى اقتصادية جديدة مثل الصين والهند يخلق تحديا لهيمنة الغرب، مما يسمح بنظام عالمي أكثر تعددية وإنصافًا. هناك حاجة إلى تجنب التشبيهات التبسيطية بين السيطرة السياسية المباشرة للاستعمار، وديناميكيات العولمة. رغم وجود مخاوف مشروعة فيما يتصل بعدم المساواة الاقتصادية، والتجانس الثقافي، وتآكل السيادة، فإن العولمة تقدم أيضاً فرصاً لا يمكن إنكارها للتنمية والتعاون والاعتماد المتبادل للمصالح مما يجعل السلم والأمن شرطًا لازمًا لازدهار التبادل بين الدول ويوجه جهود الجميع للإسهام في تحقيق هذا الشرط ولو من الناحية النظرية. أظن أن الحراك السياسي الذي يجتاح الولايات المتحدة الأمريكية، وهو بالطبع عابر للمحيط باتجاه الغرب القديم، يدفع بالتفسيرات المتشائمة والتشكك في مقاصد العولمة، كما أن احتدام الصدام بين أيديولوجيتين متقابلتين تنتمي كل منهما لحزب سياسي كبير يجعل من المتعذر الوقوف على مشتركات تؤطر النقاش وتعقلنه. ما يخيف الأمريكيين من المعسكرين أن القوى الطامحة تقضم المزيد من المصالح المنتزعة من فم الأسد الأمريكي الجريح، كما أنها تستغل التورط الأمريكي الرسمي في الحرب الروسية الأوكرانية وحرب إسرائيل على غزة وفقدان أمريكا ومعها المنظومة الغربية لأهم عوامل قوتها التي اجتاحت بها العقول والمشاعر والمتمثلة في الحريات وحقوق الإنسان. لقد سقطت أمريكا سقوطًا فتح شهية المنافسين إلى تحدي نفوذها القائم على هذه الدعاوى، وهو أمر لا يجب الاحتفال به دون النظر إلى ما يمكن أن يجره هذا التقهقر الأخلاقي والقيمي، على قوة عسكرية عظمى كأمريكا، من تبعات، واضعين في الحسبان أن لديها القوة الكافية لشن حروب عدة في آن واحد، وربما تنزع إلى إعادة تشكيل النظام العالمي، لتتموضع من جديد، ولكن بحرب كونية ثالثة. المؤشرات تقول إن العولمة لم تعد اقتصادية وثقافية ولا حتى قوة استعمارية جديدة، وإنما هي في الوضع الراهن تجاوزت تخويلها التقليدي إلى عولمة النزاعات وتصدير الأزمات، والاتصال الوشيك بين الحرب في أوكرانيا والحرب في غزة، وهو ما يفتح بوابة الاحتمالات السيئة على مصاريعها.
مشاركة :