اتصال هاتفي من المنطقة الشرقية يحمل خبرا مفجعا بتعرض قريبين لحادث سير ووفاة أحدهما، ذلك بعد منتصف الليل بدقائق، وما هي إلا ساعة ونحن على الطريق السريع إلى الدمام، زوجتي وأنا. ولأن والدة المتوفى لم تعرف بعد، ولو رأتنا في آخر الليل فسيكون توقيتا غير مناسب لإبلاغها بالفاجعة، فقررنا البقاء في أحد الفنادق حتى يأتينا الذن من ذوي المتوفى. عند الساعة الخامسة والنصف فجرا وصلنا لفندق الخبر الأبرز ذي النجوم الخمسة، لم ننم منذ صبيحة اليوم السابق، متعبان، حزينان، وستكون الصلاة على الميت بعد سويعات. اكتشفنا امام استقبال الفندق أننا نسينا دفتر العائلة بالرياض. وبدأنا محاولات إقناع موظف الاستقبال والمدير المناوب من جنسية عربية، خذ ما تشاء من العهود والمواثيق أنها زوجتي، واعطوني ساعة من نهار لأطلب إرسال دفتر العائلة من الرياض بالفاكس.. دعونا ننم في غرفتين متجاورتين.. ضعوا علينا حراسة.. أقفلوا الباب وخذوا المفتاح حتى تصلكم صورة كارت العائلة.. ولم نوفق في إقناع الرجل، ولأن صوتي بدأ يعلو من القهر فقد فضلت الاستماع لنصيحته بالذهاب لقسم الشرطة في الخبر. ألويتُ العنان نحو زوجتي المكلومة بفقد ابن شقيقتها.. اعذريني فلا قيمة لي ولك هنا إلا بتلك البطاقة.. اتصلت بالدوريات (999) فأجابني الرجل متثائبا: "مااااانعرف ياخوي، ماااالنا دخل، رح قسم الشرطة". تأبطت ذراع المسكينة إلى قسم شرطة الخبر الساعة السادسة صباحا، وأول ما يقابلك في المدخل الرئيسي التوقيف المؤقت.. ولن أتحدث عن سوء المكان فهو مخجل. وجدت رجل أمن في المطبخ منزويا من البرد، فرويت له قصتي لعله يتفاعل، فأرشدني ببرود إلى أن موضوعي عند المباحث الجنائية.. دخلت الأدلة الجنائية.. مدخل مظلم ورجل مسجى على الكراسي الجانبية، لم يشعر بي الوهلة الأولى ولكنه استيقظ في المحاولة الثانية، ودلني على المباحث الجنائية، باب خشبي محفور عليه بأداة حادة اسم القسم.. طرقت الباب ودخلت غرفة (مجلس عربي) ورجل نائم في أحد الأركان، استيقظ وفتح النور، ولسان حاله يقول (يالله صباح خير)، رويت له قصتي، فتعاطف الرجل، وقال لي اذهب وصور لي بطاقة الأحوال وبطاقة عملك، ثم عد. قلت له ألا توجد عندكم مكنة تصوير قال لا. قلت له وكيف أجد مكانا للتصوير السادسة صباحا، فأشار علي بخبرته أن أصورهما في الشقق المفروشة. وبالطبع لم يصور لي أحد من الأجانب الذين حرمتهم من نوم صباح الجمعة الهني. وفشلت مهمتي في الاستفادة من حجزي المدفوع في ذلك الفندق. قبل أن أبث المعزين ذلك الموقف، بادرني الوالد المفجوع في فلذة كبده، شاكيا ما حدث له. فمستشفى بقيق الذي استقبل الحالة رفض أن يعطيه سيارة إسعاف لنقل الجنازة، والبلدية لا تعمل نهار الجمعة حسب المستشفى. ولكم أن تتخيلوا أباً مكلوما يطلب العون من بعض العمالة في الشارع لمساعدته في نقل جثمان ابنه إلى سيارته الخاصة ليحمله معروضا ويسير أكثر من مئة كيلو وابنه الأصغر الأثير إلى قلبه مسجى إلى جواره. لحظات تتفطر لها الأكباد، ولاتستطيع الكلمات أن تعبر عما فيها من وجع. أما الابن المصاب فقد نقل لمستشفى الدمام المركزي وبقي في ثيابه الملطخة بالدم يومين لأن ملابس المستشفى في الغسيل حسب كلام الممرضات. لا أعتقد أنني بحاجة إلى المزيد من الشرح والتفسير، فما حدث قد يبدو للبعض مألوفا، ولكنه لمن كابده في ظروف نفسيه كالتي كنا فيها مؤلم إلى درجة البكاء، ومخجل إلى درجة لاينبغي معها السكوت والمجاملة. أعتقد أن وزارة الخدمة المدنية، والجهات العسكرية الخدمية معنية بتطوير قدرات فئة من الموظفين المنسيين الذين يقابلون الجمهور في حالات الحزن والفرح. نحن بحاجة إلى مزيد من التدريب والشفافية والمحاسبة، وبأمس الحاجة إلى أن ندفن سويا مفهوم الوظيفة مدى الحياة، فالكثير من الموظفين في مواقع الخدمة من المدنيين والعسكريين ربما يكون ولاؤهم للظهر الذي يستندون عليه أكثر منه للوظيفة. وأتحدى مسؤولا يستطيع أن يكافئ موظفا منجزا إلا بمخالفة النظام. وأي عمل لاتوجد فيه صلاحيات المكافأة والعقاب فإنه يسير بالبركة، ورحم الله القصيبي الذي قال إنه لم يستطع فصل ممرضة. هو والله صادق. نلتقي في العام القادم لعله يكون أفضل إن شاء الله.
مشاركة :