التفرّغ للكتابة

  • 3/28/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

أن يقدم كاتب عربي، من تلقاء نفسه، وبقرار ذاتي تماماً، على أن يفرغ نفسه للكتابة، من دون حاجته إلى وظيفة وعمل ومرتب منتظم، ومن دون حاجته إلى الارتباط بمؤسسة ثقافية أو غير ثقافية، فهذا في حد ذاته نوع من الجرأة.. الجرأة أولاً على نفسه، والجرأة على رزقه ورزق أبنائه، ثم، وإذا كان من يتفرغ للكتابة قادراً على تبعات هذا القرار، فهل هو على قدر المسؤولية المترتبة على ذلك؟ مثلاً، هل يستطيع كاتب عربي أن ينطلق في قرار تفرغه الذاتي من ثقته الإبداعية بنفسه؟ أي، هل لديه مشروع أدبي إبداعي؟ وهل يستطيع هذا المشروع، ولنقل إنه مشروع رواية أو مشروع شعر أو مشروع مسرح أن يدر عليه المال، بحيث يعيش مستوراً، مستقلاً وقد رهن نفسه تماماً للكتابة. هذه الأسئلة من الضروري أن يطرحها الكاتب العربي على نفسه قبل اتخاذ قرار قد يؤدي به إلى الفاقة والعدم، وقد شعر أنه قام بمغامرة غير محسوبة جيداً، بل إنها مغامرة مهلكة. نفهم أن يقرر كاتب غربي التفرغ تماماً للكتابة، وقد وقعنا على حالات من هذا النوع، وعلى سبيل المثال قرأت قبل فترة عن كاتب هندي شاب يعيش في الغرب نشر رواية واحدة، ولكنها لقيت انتشاراً واسعاً بين القراء وباعت الملايين من النسخ. بالطبع في هذه الحالة لا نعتقد أن كاتباً غربياً وراءه قاعدة عريضة طويلة من القراء ويبيع بالملايين يغامر إذا تفرغ للكتابة، بل، هو ليس في حاجة إلى أن يطرح على نفسه الكثير من الأسئلة قبل أن يتخذ قرار التفرغ، فالضمانات موجودة سلفاً.. أي قاعدة قراء كبيرة، وبيع مضمون قد يصل إلى ملايين الدولارات. هذا في الغرب، ولكن في الوطن العربي، وخصوصاً في ظل التدهورات السياسية وتبعاتها من ربيع وخريف، وتمدد ضباع الإرهاب، كما تمدد ثقافة التكفير والتجهيل.. نقول في مثل هذه البيئة القلقة المتوترة تصبح مغامرة التفرغ للكتابة في حجم الإقدام الطوعي على شكل من أشكال الانتحار. مع ذلك.. نعود إلى تجارب تفرغ عربية رائعة، وقدمت للأدب العربي إسهامات إبداعية لا تنسى، ولكن هذه التجارب كانت قد تمت في بيئة سياسية وثقافية واجتماعية مختلفة كلياً عما نعيشه اليوم. ترك الشاعر نزار قباني العمل الديبلوماسي، واتخذ له مكتباً في بيروت، وتفرغ للشعر والكتابة و(الحب)، ومن بعد أنشأ له دار خاصة بإصداراته، ولم يكن ما فعله صاحب (قالت لي السمراء) مغامرة، بل، شجاعة، وثقة بالنفس، واعتماد رجولي على الكتابة، وهكذا، وربما إلى اليوم، فإن نزار قباني هو الأكثر مبيعاً على صعيد الشعر. تفرغت الكاتبة غادة السمان لأدبها الرفيع الأنيق، ومثل نزار قباني أنشأت لها دار نشر، وعاشت من الكتابة. ترك الشاعر إبراهيم نصر الله كل ما من شأنه أن يعوقه عن الكتابة، خصوصاً بعدما توجه إلى كتابة الرواية، وها هو اليوم يعيش من الكتابة. هناك حالات تفرغ عربية صدرت عن قرار وعن مغامرة وشجاعة، ولكن ظروفها تختلف عن ظروف أيامنا هذه، وكأن التفرغ يحتاج إلى الاستقرار ليس السياسي والاجتماعي والعالمي فقط، بل أيضاً الاستقرار النفسي، وقبل ذلك الاستقرار المادي والمالي ليبدأ من الصفر. التفرغ للكتابة هدية من السماء، وحظ شخص انفتحت له ليلة القدر لو جاء هذا التفرغ من مؤسسة أو من فرد أو من جهة ثقافية أو من إنسان في داخله بحر من النبل والكرم والروح السامية. يوسف أبولوز

مشاركة :