تشكل العائلة مفتاحا لعديد من القصص السردية التي تسلط الضوء على أشكال مختلفة من التشرذم العائلي، وفي الأغلب ما تكون الخيانة كلمة السر التي تكشف النقاب عن جوهر المشكلات، من خلال روايات، أبطالها حقيقيين بقدر ما هم وهمين، وتبرز خللا داخل المجتمعات، لتكون وليدة البيئة التي تنطلق منها، ومرآة تعكس واقعها بشكل مغاير. “وكسة الشاويش” آخر روايات الكاتب الراحل كمال رحيم، الصادرة عن دار الشروق في القاهرة، التي نشرت بعد وفاة كاتبها، تكشف عن تفاعلات نفسية وتشابكات مجتمعية نسجها المؤلف عبر لعبة سردية مثيرة، تنقل واقع أسرة متواضعة في مدينة بورسعيد في محافظة الإسماعيلية في مصر، تدخلها الخيانة من أبوابها العريضة، لتفتك باستقرار عائلة “عادل” الهشة بالأساس، بعد أن يقدم هذا الأخير بمحاولة قتل والدته، لاسترجاع صورة الأب التي فقدها بسبب ضعف شخصيته والده وخضوعه الكامل لشخصية “وداد”، الزوجة والأم المستهترة. العائلة المشرذمة تدور أحداث الرواية في “حي العرب” الشعبي الشهير في مدينة بورسعيد الساحلية إبان حقبة الستينيات، حيث تخفي جدران أحد منازل هذا الحي، قصة موجعة لشاب اسمه “عادل” الشخصية المحورية للرواية، يكتشف العلاقة بين والدته “وداد” وجارها “زكريا”، ما يسبب له أزمة نفسية ويبدأ بالبحث عن طريقة ينتقم فيها لشرف والده “حسان”، الذي لم يلعب دوره كأي أب في عائلة متماسكة، كان شاويشا بمديرية الأمن في المدينة، لكنه كان بسيطا، مغلوبا على أمره، يعيش تحت رحمة زوجته المتحكمة فيه. وسط هذه الأجواء يجد “عادل” نفسه ملزما بالانتقام لوالده، ويقوم بمحاولة قتل أمه وشريكها، لكنه يفشل ويحاكم بتهمة الشروع بالقتل. عادل .. المظلوم والجلاد تبدأ الرواية بمشهد المحاكمة، قبل أن تنكشف شخصية “عادل” المضطربة نفسيا، والمتغيرات التي قادته إلى التخطيط لهذه الجريمة، ولم تمنعه القضبان الحديدية من إخفاء حقيقة ما قام به، بل صدح صوته داخل أرجاء المحكمة مطالبا بحقه بالانتقام لوالده، الذي عاش مغبونا مع زوجته، وقبل أن تنتهي الرواية بنهاية مفتوحة، حيث تؤجل المحاكمة إلى جلسة ثانية، نجد “عادل” مظلوما وجلادا في الوقت عينه، ارتدى قناع الجريمة حين خطط لفعلته، جلادا يأخذ حقه بيده، ولكنه في حقيقة الأمر هو شخص فاشل، حتى في القتل فشل، جعلته متغيرات البيئة العائلية، يتحول من شخص منتظم إلى إنسان مظلوم، يبكي والده الضعيف ويخاف والدته. التشويق تدخلك الرواية في عالم من الأسئلة ويتهيأ لك في الصفحات الأولى أن مرتكب الجريمة هو الزوج، أو العشيق، لتكتشف بعدها أن من قام بمحاولة القتل عن عمد هو الابن، الذي تلمس خطأ والدته بعينيه، وعاش بين أحضان والدة، تمنح حبها لأي شخص إلا ابنها، ولم تتردد في إقامة علاقة غير شرعية مع “زكريا” صاحب البيت الذي تسكن فيه، بل تخطت وقاحتها، أن أنجبت “عادل” منه، لكنها وضعته على اسم زوجها “حسان”، وزرعت في نفس ابنها عقدا ومشكلات نفسية وأدخلته في دوامة من الشكوك، لكنه في الواقع ينتمي عاطفيا إلى والده الذي لم يعرف غيره في الحياة ولمدة 15 عاما أعطاه الحب والعطف والحنان، ووقف إلى جانبه في جميع محطات حياته. لحظة انتصار «حسان» يصاب “حسان” بمرض ويلزم الفراش، ما يدفعه إلى التفكير ببيع ميراثه من أجل ضمان مستقبل ابنه الافتراضي، ويرضى بأن يتخلى عن ورثه بمبلغ زهيد، مقارنة بالأرض التي باعها لأخيه، ويقبل الوقوع في فخ خدعة جديدة نصبها له أخوه هذه المرة، فقط بهدف بناء شخصية متماسكة قوية قادرة على مواجهة “وداد” وحتى لو كان في محطته الأخيرة من رحلة حياته. فإن هذا المال منحه ما كان يفتقده من شعور بالقوة والطمأنينة والثقة التي افتقدها دائما في مواجهة زوجته، وتعد هذه الجزئية هي لحظة الانتصار الوحيدة التي عاشها “حسان” طيلة حياته مع “وداد”، المال جعله قويا، متسلطا إلى حد ما، لكن الموت كان متربصا له، وسرعان ما فارق الحياة، وصورة الأب المنكسر والمهزوم والمخدوع تلازم ابنه “عادل”. عادل بعد موت والده بعد موت والده يعيش “عادل” حالة ضياع جديدة، ويقرر الخروج من بورسعيد، ويذهب إلى القرية التي ينتمي إليها “حسان”، لكنه يصدم بعدم الاهتمام به أو الحصول على الحياة التي رسمها في مخيلته، وذلك بسبب الفقر الذي يعانيه أهل هذه القرية، لكنه يلتقي بزوجة عمه فاطمة التي كان والده يرغب في الزواج منها، وتهديه سوارا من الذهب، وتطلب إليه الذهاب إلى الإسكندرية، هناك حيث يلتقي بـ”شطا” صديق والده الذي أحسن إليه وتقرب منه. لكنه سرعان ما يقرر العودة إلى بورسعيد، ليجد أن زكريا احتل المنزل الذي عاش فيه، وحوله إلى مركز لبيع الحشيش، هنا يشعر بحاجة ملحة إلى الانتقام من أمه من خلال قتلها، هي من سببت له التعاسة وجعلته يعيش كل هذا الضياع. أحلام اليقظة يلقي المؤلف الضوء على “أحلام اليقظة”، التي وظفها في شخصية عادل، الذي يفعل في أحلامه مع أمه وزوج أمه، ما لا يستطيع في واقعه، يقول “عادل”: “أحلام اليقظة جميلة.. أخذت حقي فيها بالكامل، ركل، بصق، وأحيانا كنت أنهال عليهما بالشبشب الذي في قدمي، ثم بدأت أقتل، بعصا، بسم يوضع في مشروب، مدفع رشاش أو من نوع الـ(آر بي جي) وقد أركز على السكاكين، وطعن طعن حتى تخرج الروح”. كما يرصد المؤلف اللحظة الذهانية التي تتملك الإنسان فيرتكب أبشع الجرائم، التي قد تسببها ضحكة أو أغنية، ينفجر فيه الغضب المكتوم والصراخ الداخلي ليخرج بجريمة نكراء. لغة رشيقة تتميز الرواية بلغة رشيقة وإيقاع درامي سريع، وتكشف مدى قدرة الروائي كمال رحيم الفريدة في الكتابة بتدفق وبنبرة تشويقية، تقترب الرواية من روايات الجريمة، التي تطرح الأسئلة وتثير الشكوك، وقد منحها رحيم طابعا وجوديا، حين صور المثلث الشهير: الزوج، الزوجة والعشيق، كاشفا أبعاد الصراع النفسي الحارق الذي عاشه “عادل” بين مشاعر الغضب ومشاعر البنوة. كما نقلت الرواية القراءة الموضوعية التي قام بها الكاتب للتغيرات التي عاشتها مدينة بورسعيد في أوائل ستينيات القرن الماضي حتى دخولها مرحلة الانفتاح. وقد بدا هذا الأمر واضحا بإقحام أغنية أحمد عدوية “ادي الواد لابوه” كمحرك حقيقي لارتكاب الجريمة، لما تمثله من رمزية تقليدية دلت على ميلاد مدينة أخرى ودخولها العصر الجديد. استثمر الكاتب كثيرا خبراته المباشرة، فعمله الطويل في بورسعيد مكنه من الوصول إلى “بطن المدينة” والتناقضات على الصعيد الاجتماعي الذي يجدد باستمرار الدوافع لارتكاب الجرائم. وبفضل هذه الخلفية تمسك رحيم بالتعبير عن هذا العالم بلغة بسيطة خالية من الزخارف البلاغية.
مشاركة :