< أزماتنا الفكرية والأخلاقية وتنامي ثقافة الشك وتوزيع التهم وقذف الآخرين تنشأ جميعها من مربع بشري يدعى «مرض القلوب»، المنتمون لهذا المربع يعانون من مرض عقلي في الأساس، لكنه مرض مستتر لا يمكن كشفه بسهولة في ظل أن الحبال الصوتية فعَّالة، والجماهير تلاحق من دون تدقيق وتفكيك للمتوافر من الأسطر والنصوص، وتحت وقع الإيمان بأن المظاهر هي العنوان الأبرز في تحديد هوية وقابلية الشخص. لم يرتفع مؤشر مرض القلوب إلا حين أغلقت بوابة التفكير تماماً، وأصبحت القضايا القابلة للطرح والتناول والتفصيل والتأصيل والخلاف والاختلاف قضايا يقينية بحتة غير قابلة للتحاور والتحليل، لم يرتفع مؤشر المرض إلا حين استوعبنا بمعية التلقين أن الاختلاف شذوذ غير مستساغ للسائد والمألوف، وأن الحوار العقلاني مسألة فيها نظر. مجتمعاتنا تتحول تجاه أي طرح فكري مختلف مخالف للمألوف الحالي إلى مجتمعات هجومية محتقنة كارهة مصنفة متبرئة، على رغم أن الحكاية برمتها لا تستدعي أن نكون على هذا القدر من التوتر والوصاية والاختلال في الكلمات والتناقض في المواقف، التوتر يقف على هرمه «مرضى قلوب» وصلوا إلى قناعة تامة بأن عقولهم شاملة جامعة للعلوم والمعارف والحكم، ومتى ما حدث وأن وصل بهم أحد إلى مساحات التعرية وجذبهم لمناطق المناظرات وإلقاء محتويات الفهم والوعي، اتجهوا لما يمكن اعتباره تصفية عشوائية تحدث ضجيجاً موقتاً، لكنها لا تؤتي ثماراً على المدى البعيد، وتعمقاً في الجيل المتعطش للمعرفة والمهتم بالأسئلة والأجوبة العميقة، حقيقة أن قضايانا الفكرية والفقهية تسير في صندوق مغلق يسمح لفرق ناجية بالأخذ منه، ولكن لا يجوز أن نعرف لماذا أخذت هذه الورقة وتركت الورقة الأخرى. سيستمر مرضى القلوب في طرحهم وشكوكهم وفقدان اتزانهم طالما كان تعاملهم مع الرأي الآخر أشبه بمشروع حرب، ومتى ما كان يشتعل في عقولهم قيح العصبية والنظر بدونية إلى من لا ينتمي إليهم، وكذلك إفرازات سوق الفضائح التي تكشفها تغريدة مريضة وتطبل لها تغريدة أخرى، ولو لم يكن من فضائل وسائل التواصل إلا أنها شرحت لنا بدقة كيف يسير مرضى القلوب بالوعي الشعبي ويجاهدون لإغلاق ملفات قابلة للبحث، والتضييق في ما هو يسير، لأننا رضعنا الشك أكثر من اليقين، وبنينا ثقافتنا الدينية وسياجنا الفكري على آراء تنحاز إلى التشدد أكثر من انحيازها إلى الاعتدال والوسطية، ولو رغبنا السباحة في بحر الأسباب التي أدت إلى انتشار مرض القلوب لانتهينا إلى أن ثمة انغلاقاً فكرياً مورس علينا طوال سنوات، وجاء عصر الانفتاح البحثي والمعلوماتي والشرعي ليناقش مناطق محرّمة اللمس، كالتقديس والتعطيل العقلي ونواتج التلقين وأسرار انجذابنا العاطفي للظواهر الصوتية والتوزيع المبطن للفرق الناجية، كل هذه المناطق كانت مستعصية النقاش في زمن فائت، لأن الحروف تكتب بحبر واحد. الاختلاف ثراء حين لا يكون فيه مساس بالثوابت، ولكن كثيراً من العادات والتقاليد ومسائل الخلاف الثرية بالآراء والتنوع ذهبت بحماسة غير مقروءة العواقب، وتشنج زائد عن الحد، لتكون في مصاف الثوابت والقضايا المتجهة إلى التحريم والتشديد والخوف من الانحراف والعقاب الرباني في ظل الانصياع لها، المرضى المبتلون في قلوبهم تتناقض أفعالهم، ومبادئهم تباع وتشترى، يرون صوتهم فوق كل صوت، ورميهم للتهم وجمل التخوين وجر المجتمع لأمراض أخرى أهون من تفكيكهم للشائك بين أيديهم، وإن اختلفت مع هذا الفريق فعليك أن تستعد جيداً لخسائر وقتية وإساءات مجانية وحرمان دائم من أي كرسي، فقطع الرقاب مقدم على قطع الأرزاق.   alialqassmi@