كنت قد تحدثت فيما سبق عن حالات مؤذية من صور الضيافة والكرم اجتهد فاعلوها حباً وتقديراً لضيوفهم، وهو وإن كان من الخُلُق الكريم لدى العرب قديماً وحديثاً؛ إلَّا أن المندوب إليه تَجنُّب الإسراف وامتهان نعم الله، بل إن التوجيه الرباني الكريم قد تناول هذه المسألة كما في الآية الكريمة 31 الأعراف، والصور التي أوردتها بالمناسبة المُقامة بمخيَّم عائلي هي مثال لكثير من الحالات التي تؤلم حتى أصحابها، ويتذرعون بأنهم يفعلون ما تُمليه عادات المجتمع بمراسم الضيافة، وهذا - كما يبدو - هروب من دائرة واقع السلوكيَّات غير المرغوبة. - في كثير من المجالس يتحدثون عن امتعاضهم من السَّرف وتبذير الأموال بتقديم صنوف الأطعمة أثناء المناسبات والأعراس؛ وما إن تكن المناسبة تَخصّهم يتناسون عمداً كل ما قالوه، ويتجاهلون ذاك الحماس والإلقاء الخطابي بمجالسهم المُعَزَّز بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في هذا الشأن، وحين ينفرد أحد الأقارب بصاحب الدعوة والمناسبة العامرة بالملذات ويًذكّره بأنه كان ضد هذا التَّصرف؟ يكون الرد: (ما نَقْدر نخالِف رَبْعنا، وعسى الله يتوب علينا)! - هنا يبرز جانب مُحبب من جوانب الشجاعة؛ إذ إنه لا يلزمه أي سلاح؛ بل يتحقق بالإصرار على تجربة تقديم الضيافة وإكرام الضيوف بما يليق بهم دون إسراف وبذخ ونكران للنعم، ونكون بهذا الصنف من الشجاعة قدوة للأبناء والأسرة ولمن حضر، ومن يتحدث بصنيعنا لاحقاً، (مع اليقين بأن كل إنسان يَعرف حدود مَقامه الاجتماعي وقدراته المادية وقدر ضيوفه ومقامهم عنده، فلكلٍ قَدره ومكانته)، ومع هذا فالاقتصاد والتوازن في الضيافة أمر يجب أن يكون حاضراً بالذهن، ولِتَكون الشجاعة والإقدام على فعل القدوة أولى من المظاهر. - الأكثر إيلاماً أن (يُلَزِّم) أحدهم؛ أي:(يَحرِص ويُشدّد) بدعوة أناس لضيافته لتكريمهم وهو لا يجد قيمة الوليمة وما يتبعها من مصروفات جانبية قد ترهقه وأسرته زمناً لا يعلم مداه، فالضيوف أو المدعوون قد يكونون ممَّن يستحقون الضيافة وأكثر؛ لكن الداعي أحوج بالتكاليف؛ وأسرته تنقصهم مستلزمات يؤجلها كثيراً خشية صرف المال القليل بيده فلا يجده عند مثل هذه الحالة من مواجهة ضيوف أو مقابلة من يستحقون ضيافته للتعبير عن تقديرهم وإكرامهم، فالقصص تُروى عن مثل هؤلاء الطيبين. - يُبرر كثير من أصحاب خصلة (الكرم الشاطح) والمُبالَغ فيه بأن هذا من العُرف الاجتماعي الذي لا يَقدر على مواجهته حتى أنه يُمكن أن يُولِم لشخص قَدِم ضيفاً؛ أو حين قابل من سبق معرفته بأي ظرف ومكان؛ وهو كاره أو عاجز عن تكاليف ضيافته وربما أنه لا يُحب حتى ذِكْرَه فكيف مقابلته وإدخاله منزله! لكنها سطوة ما يُفَسَّر ويُسمَّى (الرهاب والخوف الاجتماعي)، بأن يخاف المرء من ملامة الناس ومن نَعتِه بالبخل والتقصير بعادات المجتمع وأعرافه. - لستُ ضد عادات وسجايا العرب العريقة، لكنها صياغة لفكرةٍ المَناط منها التذكير بأهمية تقوية النفس والمشاعر للبدء باقتحام مَصَدات عادات كانت لازمة بأزمان مَضَت، أما الآن- ولله الحمد- فجودة الحياة وتمَدّن المجتمعات لا تستدعي الإلحاح بتقديم الدعوات كيفما اتفق وإرهاق الميزانية الشخصية بلا داع منطقي.
مشاركة :