أسعدني بفضل من الله ما لقيته هذه الشذرات من قبول ومتابعة وإشادة بفوائدها المبثوثة في ثنايا الذكريات المبهجة؛ فطارت بي أجنحتها إلى زميل حضوره وغيابه كالنسيم إنعاشاً وفائدة إن حضر حضرت الرؤى العميقة في الشعر العربي القديم وفي قضايا المعاصرة بأفق يتلمس المكامن القصية للمعنى المضمر في الغور البعيد. أما غيابه فكان لمهمة وطنية استمرت مدة 12 سنة من 2005-2017م، عضواً في مجلس الشورى. كان في إبانها الغائب الحاضر بإطلالاته الصحفية وكتبه التي لم تنقطع. إن مستعرض فهرس كتبه وأبحاثه يلمس في أولها «شِعر ابن مُقبل (قلق الخضرمة بين الجاهليّ والإسلاميّ: دراسة تحليليّة نقديّة)، جزءان، (جازان: النادي الأدبي، 1999). [أصله: رسالة ماجستير].» ملامح القادم من دراسات متنوعة المشارب والموارد بعد أن تنوعت قراءاته بين التاريخ والأسطورة والآثار والفكر المعاصر بعد أن عمق معرفته باللغة الإنجليزية ولن أنسى شاعريته المتوهجة فناً وإبداعاً ولا أخلاقياته ولا إطلالاته المحسوبة وقد كان مكتبه من مكتبي غير بعيد؛ إنه الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي. أما النديم الذي تمتد جلسات أنسه ساعات دون أن تمل حديثه المتصل في شؤون الحياة السعودية عادات وتقاليد وبلدات وأسراً وأحداثاً عن الأرض والبشر يخيل إليك معها أن الماثل أمامك كهل عركته السنون وهو في ريعان شبابه إنه الصديق الدكتور محمد بن إبراهيم الثاقب الذي تستحضره الذاكرة عند كل معلومة تراها على أرض الواقع أو تقرأها في كتاب. أما الزميل الذي تزاحمت في الذهن عند ذكره الذكريات لارتباطه بطرف من أطرافها فقد كان مروره كالنسيم العليل يمر تاركاً وراءه عبق الحقول المزهرة التي مر بها ثم يغيب وراء شؤون الحياة التي استقطبته إنه الدكتور عبد الرحمن الدباسي الذي تذكرت بذكراه مرحلة من مراحل اهتماماتي التراثية الممتعة والمثرية. كان عمادَ هذه الذكريات بحثٌ تقدمت به ليدعمه مركز البحوث في كلية الآداب في جامعة الملك سعود وكان مديره الدكتور الدباسي، كان عنوان البحث «من مصادر الحصري القيرواني في كتابه المصون في سر الهوى المكنون» وهو أحد كتب الحب في التراث العربي التي كان فارسها الأول محمد بن داوود الأصفهاني (255-297 هج). صاحب كتاب «الزهرة» وابن مؤسس المذهب الظاهري في الفقه، الذي أسس لهذا الضرب من التأليف بهذا الكتاب. يعد «الزهرة» معلمة نفسية أدبية دينية فكرية استوعبت من رقيق الشعر وذوب الفكر ما يحتاج إلى تأمل يجمع شتات الكتب التي نسجت على منواله تقليداً واتساعاً. ويعود اهتمامي به إلى أيام التحصيل في جامعة ليون الثانية في فرنسا عندما عثرت في مكتبتها العريقة على نسخة من النصف الأول منه أخرجه Alois Richard Nykl (1885- 1958 م) ألواز ريشارد نيكل بمساعدة الشاعر إبراهيم طوقان (1905-1941 م) ونشر عام 1932 م/ 1352 هج في مطبعة الآباء اليسوعيين - بيروت وعنوانه بالإنجليزية: Kitab al-Zahrah (The book of the flower). The first Ed. by A.R.Nykl in collaboration with Ib. وألواز ريشارد نيكل هذا مستشرق من أكابرهم، المنصفين هام بالأندلس وكتب عنها وعما يسمى الأدب البروفنسالي (نسبة إلى مقاطعة بروفانس في فرنسا) وتأثره بالأدب العربي في الأندلس. وترجم رسالة «طوق الحمامة» إلى الإنجليزية عن طبعتها الأولى التي أخرجها المستشرق الروسي د. ك. بتروف D. K. Petrov (1872-1925 م) عن مخطوطة ليدن الوحيدة عام 1914 م. ونشر نيكل ترجمته سنة 1931م في دار غوتنر-فرنسا بعنوان: Containing the‚ ris?la‘ known as ‚The Dove’s Neck Ring‘, about Love and Lovers, by Ab? Muhammad‚ ALi Ibn Hazm al-Andalusi, translated from the unique manuscript in the University of Leiden, ed. by D. K. Pétrof in 1914, with Introduction and Notes. Paris, P. Geuthner, 1931. وتكرر الخطأ في كتابة اسمه لويس نيكل وبعضهم كتبه A. R Nikil. فأبعد النجعة وضلل الباحثين. وفي عام 1975م نشر الدكتور إبراهيم السامرائي، ونوري حمودي القيسي، رحمهما الله الجزء الثاني في بغداد ثم نشر الجزأين الدكتور إبراهيم السامرائي في دار المنار - الزرقاء الأردن 1985 م. ولصاحب الشذرات تعاليق على هذه الطبعة بلغت 90 صفحة نشرتها مجلة عالم الكتب السعودية. وكان كتاب «الزهرة» بفتح الزاي المعجمة وليس بضمها كما زعم بعضهم)؛ ولنا في ذلك دليلان: أولهما قديم فقد أورد ياقوت الحموي في «معجم الأدباء» (ج1، ص625) أن أحمد بن محمد بن فرج الجياني الأندلسي ألّف كتابه المعروف بالحدائق للحكم المستنصر عارض فيه كتاب (( الزهرة )) لابن داود، إلا أن ابن داود ذكر مائة باب في كل باب مائة بيت، وأبا عمر ذكر مائتي باب في كل باب مائتي بيت ليس منها باب تكرر اسمه لأبي بكر، ولم يورد فيه لغير الأندلسيين شيئاً، وأحسن الاختيار ما شاء». وبين الزهرة والحديقة رابط يرجح فتح الزاي. أما الدليل الحديث فإنه يتمثل في ترجمة ألواز نيكل التي أوردتها أعلاه عندما ترجمها The book of the flower. ولي عن محمد بن داوود الأصفهاني وكتابه «الزهرة» مقالة جامعة في العدد 253 من مجلة الفيصل الغراء 1997م. وقد يكون محمد بن داوود أول من استخدم مصطلح (الحب العذري)، وفيه عبارة عجيبة وقفت عندها في الحديث عن مكانة المعلقات عند العرب في عصر ابن داوود الذي يسميها (السبع السائرة على ألسنة الصبيان). وكان الزهرة أهم المصادر التي نهل منها الحصري القيرواني في كتبه «زهر الآداب» و»المصون» الذي حاد عن جادة الصواب في معرفته محقق الكتاب أ. د. النبوي عبد الواحد شعلان فجعله في فهرس الأعلام شخصين لوروده بصيغتين ( أبو بكر القياسي) و( محمد بن داوود)، ناهيك عن مصادر أخرى لم يهتد إليها المحقق في تخريج مادة الكتاب وعلى تلك المصادر انصب بحثي السابق ذكره. بادرني الزميل الدكتور الدباسي بعد مدة برد على طلبي أن يدعم مركز البحوث البحث وقال: أخلق بهذا البحث أن ينشر في مجلة علمية محكمة فأخذت بنصحه وفعلت، واستحضرت ذاكرتي في هذا السياق من شجون البحث ما يحسن ذكره في هذا المقام؛ إذ كان إبراهيم الحصري القيرواني أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني، ولد في القيروان سنة (420هـ/ 1029م، وتوفي 453 هج/ 1061م) وسيلة توسلت بها عن غير قصد للتعرف على شخصية من فضلاء العلماء فضيلة الدكتور محمد بن سعد الشويعر المولود سنة 1359هـ/ 1940م، في مدينة شقراء، والمتوفى رحمه الله سنة 1442 هج/ 2021م. كان مستشاراً لعلم أعلام المفتين وفضلائهم الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز المولود سنة (1330 هج/ 1912م) والمتوفى رحمه الله سنة (1420 هج / 1999م) مفتي المملكة وزهرة علمائها. كان الشيخ الدكتور الشويعر قد أعد رسالة جامعية حافلة في جامعة الأزهر بعنوان «الحصري القيرواني وكتابه زهر الآداب» سنة 1397 هج. وقد نشر بحثاً بهذا العنوان في مجلة «الفيصل» الغراء وأخطأ المحررون ونشروه باسم محمد بن سعد القحطاني ولما اكتشفوا الخطأ صححوه في أرشيفهم، وظل في المجلة ينتظر من يصححه، وشاء الله أن أعثر على المقال في «الفيصل» في إبان بحثي عن مصادر «المصون» وفي كتاب الدكتور الشويعر فعرضت المسألة، وجاء الرد من المجلة ومن فضيلة الدكتور الشويعر برسالة رقيقة تلقيتها منه قال فيها: إنه انتظر سنوات من يصحح هذا الوهم حتى يسر الله تصحيحه. وتوثقت بعدها صلتي العلمية بشيخنا أبي عزام رحمه الله في مجلس شيخي أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري يحفظه الله. ولما أراد إعادة نشر كتابه عن مدينته الأثيرة «شقراء» في طبعته الثانية أهديته كتاب «تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية» للمؤرخ الفرنسي فيلكس مانجان، منشورات دارة الملك عبد العزيز، وفيه مادة نادرة عن المدينة أضافها شيخنا لكتابه في الطبعة الثانية. كل ما ذكرته استدعاهذكر هذه الشخصية الرزينة للدكتور الدباسي وفقه الله. ما زال في الجعبة الكثير عن كوكبة من الزملاء أولهم الصديق الدكتور الشاعر أستاذ البلاغة محمد رضا الشخص شفاه الله وعافاه وكان لكرم نفسه يخصني سنوياً بنصيب وافر من تمر الأحساء اللذيذ وبمقطوعات عذبة من شعره الرقيق، ولم تسنح لي فرصة زيارته لرؤية جبل القارة وأوابده في الأحساء فلم يشأ الله إتمام الزيارة. أما الأستاذ الدكتور ماجد بن محمد بن عبد الله الماجد فكان من الزملاء الذين يمحضونك الود حينما تلقاه أنجز أطروحة عن تفسير البقاعي (إبراهيم بن عمر) توفي (885 هج)، «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» وهو من أعجب التفاسير فريد في بابه. أما عنوان الرسالة فهو التناسب في التراث البلاغي- نظم الدرر للبقاعي نموذجاً، بإشراف أستاذنا الدكتور ناصر بن سعد الرشيد يحفظه الله. أما الأستاذ الدكتور عمر بن علي المقوشي فقد كان أنموذج الشهامة والعطاء في خدمة الجوانب العلمية؛ حدثته يوما عن الموسوعة العربية العالمية فعاد يحملها بعد أيام هدية من أخيه الدكتور عبد العزيز المقوشي نائب المدير العام بمؤسسة الأمير سلطان بن عبد العزيز الخيرية. أما الصديق النحوي الفذ الأستاذ الدكتور عادل معتوق العيثان فقد ارتبط بذاكرة المساء في تردده علي في المكتب مساءً وبأستاذه الدكتور عوض القوزي رحمه الله الذي كان يسميه (أبو علي الفارسي الصغير). ولطالما خطرت ببالي رسالته للماجستير التي يجذبك عنوانها لترى كيف عالج الرجل «الواو-دراسة نحوية دلالية في المصطلح والوظيفة». مازال فضاء الذاكرة يتسع لكثير من الزملاء الذين ارتبطت أسماؤهم بالوقائع والأحداث والفوائد التي ترسم الأبعاد الإنسانية والعلمية وقد أفضى بي المطاف إلى التلاميذ الزملاء الذين سيكون مكانهم في شذرة قريبة إلى النفس، ولنا لقاء.
مشاركة :