شذرات من سيرة ذاتية: آفاق الرياض (5) - محمد خير البقاعي

  • 1/12/2024
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لم تكن الذاكرة، وكيف لها، لتغفو عن زميل وصديق يحمل بين جنبيه فيضاً من الإنسانية والالتزام الوطني، والتطلع إلى المستقبل المشرق في كل ذلك. وقد أبهجني ما علمت مؤخراً من تفوق أبنائه في انضمامهم إلى قافلة العلم ورسم مستقبل زاهر على كل المستويات. إنه ابن «السويق» التابعة لينبع النخل في منطقة المدينة المنورة؛ الدكتور عبد الله بن حامد المعيقل الذي تعمقت في جيناته مزية الاحتواء وتقبل الآخر وإن اختلفت التوجهات والآراء، ولكاتب هذه السطور تجربة رائدة معه في هذا المجال. كان «أبو تيم» نمطاً محبباً من الرجال لن أنسى أن اللقاء الأول مع الشاعر المبدع جاسم الصحيح كان في منزله مع نخبة من أهل الأفق المتسعة والفن الراقي. ولا يمكن أن تمر بالتجربة الإنسانية لأبي تيم إلا مقرونة برفيقة دربه الفاضلة الدكتورة عزيزة المانع التي لم يطل النسيان حضورها بصحبة شقيقتها الزميلة العزيزة الأستاذة الدكتورة سعاد عبد العزيز المانع ندوة أقامتها جمعية الثقافة والفنون في الرياض شاركت فيها مع الأستاذ الدكتور هاجد دميثان الحربي بعنوان «جدلية اللغة والهوية، أصولية اللغة» وأدارتها ببراعة الدكتورة سحر التويجري. وكان للدكتورة عزيزة تعليق موفق في نهاية الندوة إذ قالت: «اللغة يجب أن تبقى ذات سيادة وعلمية، وإن لم نتدارك لغتنا فستكون الإنجليزية لغة العلم، والعربية لغة الجهل والجاهلين». ولما انتهت المحاضرة قالت بعد أن ألقيت السلام عليهما «الآن فهمت لماذا كانت شقيقتي تلح علي لحضور الندوة». للدكتور المعيقل حضوره العلمي المميز الطلائعي في أبحاثه وندواته وحواراته، يحبه طلابه ويسعى لارتياد مواطن التطور والإنصاف ولعل مشاركته في تحرير مجلة «النص الجديد» حقق بعض أهداف المجتمع الجامعي الذي تحدث عنه وتشكل عندما قدم مع آخرين إلى جامعة الملك سعود وشكلوا مجتمع الوطنية والاعتزاز باللغة والثقافة على طريقتهم. يتسرب الزمن وتمضي الأيام دون أن تستطيع محو آثار الذين يحفرون ذكرياتهم في نفوس من حولهم وإن كان مرورهم كالنسيم عليلا، ومن هذا الطراز زميل ما زال مروره غضا طريا؛ إنه الأستاذ الدكتور أحمد صالح الطامي الذي حمل إلينا عصا الترحال من جامعة الملك فيصل في الأحساء إلى جامعة الملك سعود في قسم اللغة العربية يحمل معه كثيراً من ملامح الود والأناقة قبل أن ينتقل إلى جامعة القصيم عند افتتاحها منذ عام 1426هج - 2005م. وقد بدا لي عند استعراض أعماله العلمية أن لي معه اهتمامات مشتركة في نظرية الترجمة والأدب المقارن والنقد الأدبي، ولما علمت بصدور كتابه» المصطلح والتناص والعتبات: قراءات نقدية» عن دار الانتشار العربي، 2023م عادت إليّ ذكريات مرحلة انصرفت إبانها إلى الاهتمام بقضايا العلاقات النصية ونشرت كتابي «آفاق التناصية، المفهوم والمنظور، ط 1 الهيئة المصرية العامة للكتاب- دراسات أدبية 1998م ، ط2 دار جداول 2013م» الذي تضمن ما ترجمته عن مفهومي التناصية والتناص وبينت الفرق بينهما. وتضمن الكتاب ترجمة للفصل المتعلق بالعلاقات النصية من كتاب الناقد الفرنسي الكبير جيرار جينيت من كتابه « طروس، الأدب في الدرجة الثانية، باريس، لو سوي1982م. ‏ Gérard Genette, Palimpsestes, La littérature au second degré, Paris, Seuil, 1982, وملخص الفرق بين التناصية = ‏intertextualite والتناص = intertexte هو أن الأول يدل على البعد النظري للعلاقات النصية بينما يدل الثاني على الفعل التطبيقي لتلك العلاقات. ومما غاب عمن كتبوا عن المصطلح بالعربية مغربا ومشرقا أن أول استخدام للمصطلح كان في مدخل المجلة الفرنسية Poétique وهو عدد خاص عن التناصية صدر 1976 م، وذكر في أوله مقابلات المصطلح في عدد من اللغات منها العربية بلفظ التناصية. وتقترن الذكرى الجميلة للدكتور الطامي بذكر زميل آخر من أقرانه؛ رقي فكر، وأناقة مظهر، وحسن تأتٍ في العلم والحياة؛ إنه الصديق العزيز الدكتور عبد العزيز محمد السبيل الذي كان مروره بقسم اللغة العربية فرصة لاكتشاف ما تنطوي عليه نفسه من مكنونات خيرة تظهر في أصعب المواقف. ولن أنسى مشاركته البهية الفاعلة في مناقشة رسالة ماجستير عن القصة القصيرة السعودية للباحث الدكتور قليل الثبيتي، ولا حضوره ندوتي في إثنينية الأستاذ الدكتور عبد المحسن القحطاني بعنوان «الترجمات الفرنسية لألف ليلة وليلة»، وشرفني بإدارتها الأستاذ حسين بافقيه، الأديب، الأريب، صاحب الفكر النير الحر الذي ستكون له مكان ومكانة في هذه الشذرات، كما حضرها الصديق الأستاذ الدكتور معجب الزهراني. ولعل ما تشبست به الذاكرة فضلا عن كرم البروفسور القحطاني وتشريفه كاتب هذه السطور أمور منها حضور أستاذ الجيل بكري الشيخ أمين (1930-2019 م) رحمه الله صاحب كتاب «الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية،1972م» وكان حضوره وثناؤه مصدر فخر واعتزاز ، كما كان حضور الدكتور السبيل بأدبه المعهود وتواضعه الجم. ومما ذكرته في تلك المحاضرة أن تلك الترجمة الفرنسية التي أنجزها عام 1704م أنطوان غالان Antoine Galland))‏ (1646- 1714م) سابقة على الطبعة العربية بأكثر من مئة عام، إذ ظهرت طبعة عربية تعرف باسم «كلكتا» عام 1814، تلتها طبعة عربية للكتاب تعد الأولى في المنطقة العربية، والمعروفة باسم «طبعة بولاق» في مصر عام 1833، وهي طبعة اعتمدت على نسخة هندية مترجمة عن مخطوط مصري الأصل، بل إن الترجمة الفرنسية أقدم من بعض مخطوطات ألف ليلة وليلة. وجرى حديث قبل أيام في دورية الرحمانية عن حضور عبارات ألف ليلة وليلة في الخطاب العربي كقولنا «افتح يا سمسم» و»علي بابا» و»أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح» وغير ذلك مما يجري على ألسنة الخاصة والعامة. ومن المفارقات أن نجد شركة صينية تحمل اسم «علي بابا» واسمه في الموروث مرتبط بمئة من اللصوص أصبح زعيمهم حسب حكاية ألف ليلة وليلة. ولما تولى الدكتور السبيل رئاسة مجلس أمناء جائزة الملك فيصل العالمية بعد أن تقلب في المهمات الثقافية والعلمية كنت في لجنة التحكيم الأولية للجائزة، وكنت معه في لجنة الإعداد لمشروع«مئة كتاب وكتاب» بالتعاون مع معهد العالم العربي في باريس إبان الإدارة العامة للدكتور معجب الزهراني ويتلخص المشروع في أن تصدر المؤسستان مناصفة مئة كتاب وكتاب عن عرب بالفرنسية وفرنسيين بالعربية خدموا اللغة العربية والتراث العربي. وقد تملكني الأسف لأنني لم أستطع المشاركة في الكتابة للأزمة الصحية التي ألمت بي. وارتبط ذكر الدكتور السبيل عندي أيضاً بمصطلح جرى على لسانه وسمعته أذني أول مرة منه، ثم وجدته بعدها في دراسات النقد الثقافي عند الرائد وصاحب النظرية أستاذنا البروفسور عبد الله الغذامي إنه مصطلح «الشعرنة» الذي ردده على مسامعي نظيرا لمحاضر استخدم مصطلح «السيسنة». وآخر مكرماته التي ليس لها آخر زيارتي في المنزل بعدما ألمت بي الأزمة الصحية التي جعلتني قعيد المنزل رفقة الشهم الوفي الكريم الأستاذ إبراهيم الهدلق حفظهما الله. كدت أضع القلم عن هذه الشذرة عندما تبدت لي قامة رجل علم هو الأستاذ الدكتور محمد حسن باكلا، وكان من أوائل السعوديين الذين خاضوا غمار اللسانيات وعلوم اللغة، وأصبح له شهرة وانتشار. كتب بالعربية والإنجليزية وأسهم في عدة مشاريع لغوية، كان لطيف المعشر، سمح النفس، واستغل بعض ضعاف النفوس ممن توسم فيهم خيرا من غير أبناء بلده، فاستغلوا اسمه وماله في مشروعات وهمية. كانوا يرومون من ورائها النفع المادي بكل الطرق. أسهم الدكتور باكلا مع البرفسور محمود إسماعيل صالح في تأسيس معهد اللغويات العربية في جامعة الملك سعود وكان للمعهد تاريخ يستحق كل تقدير واحترام في مجالات متعددة خدمة للغة العربية وتعليمها للناطقين بغيرها. واهتم الدكتور باكلا بالجوانب الصوتية واللهجات. وكان يسهم ماديا ومعنويا وعلميا في إصدار مجلة «التواصل اللساني» التي صدرت بمبادرة من الدكتور محمد الحناش من المغرب الشقيق عام 1990 م. واسم البروفسور باكلا راسخ في بدايات علم الصوتيات واللهجات عربيا وعالميا، وكان من نخبة اللغويين الذين أصدروا معجم المصطلحات اللغوية الحديثة 1983م. لا أود أن أختم هذه الشذرة دون تذكر زميل وصديق من طراز فريد، التحق بالقسم بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 2006 م عن رسالته المغرية «جماليات المكان في الرواية السعودية»؛ إنه الزميل الدكتور حمد سعود البليهد، وهو ذو عبارة رائقة، وفكر ثاقب مهتم بالأدب السعودي والأدب الحديث، له اهتمامات تراثية جعلته يخصني بحديثوحواره الذي كان يصدر عن معرفة ومنطق تشكلا بمداومة البحث والتطلع إلى الآفاق البعيدة في الكتابة. الدكتور حمد فيه رزانة وتأن تحسبهما برودا أو تعاليا. وهو لمن يعرفه بعيد كل البعد عن ذلك، وسيرة طفولته «عشيات الحمى» تفصح عن تذوق أدبي عال، وحسن تعبير عن الحوادث والأزمنة، ولعله حصل ذلك من اهتماماته التراثية التي ينتقيها بعناية ويبذل في سبيل ذلك الجهد والمال، لتصدر عنه في أجمل حلة. وسعدت به غير مرة حتى بعد أن أقصاني من القسم سوء الظن وتوهم العداوة؛ وهو أمر لم أكن أستطيع ولا أريد له ردا. ولكن الله عوضني بما قرت به النفس، وربما حزن له من اتبع هواه وأوهامه التي تدل على ما وراءها. أنهي هذه الشذرة وكلي حماسة لاستكمال العقد الفريد من زملاء فضلاء التحقوا بالقسم في سنواتي الأخيرة فيه؛ جاؤوا من كلية المعلمين وكلية الدراسات الاجتماعية ليضخوا في شرايينه دماء التطوير في الآليات والمناهج كما هي سنة الحياة. ولنا لقاء.

مشاركة :