عبدالعزيز بن سعد والتجديد في الخطاب المنبري 1-2 - أ.د.عثمان بن صالح العامر

  • 1/5/2024
  • 00:00
  • 17
  • 0
  • 0
news-picture

عندما عدت متأملاً في كلمة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سعد أمير منطقة حائل بمناسبة احتفال جائزة (بصمة) في نسختها السادسة مساء الأربعاء الماضي 14/ 6/ 1445 هـ، 27/ 12/ 2023 م قفز إلى ذهني مباشرة قصيدة البردة في بنائها الأدبي، التي قالها كعب بن زهير رضي الله عنه مادحاً الرسول صلى الله عليه سلم، فمع أن القصيدة في باب المدح وطلب الصفح والاعتذار إلا أنه بدأها بالتغزّل بمحبوبته سعاد. وعلى نفس المنوال نسج وجه السعد كلمته التي بدأها بالتغزّل في معشوقته معرِّفاً بها بعد ذلك مفصحاً عن وشائج الحب المتبادل بينهما، وهذا أول ملمح من ملامح التجديد في الخطاب المنبري، مع كون الكلمة تختلف عن القصيدة في الغرض الشعري وفي الزمان والمكان والمناسبة، ولكن ما يهمنا هنا المطلع الذي وافق فيه سمو الأمير ما كان شائعاً في ذلك الزمن، مفارقاً فيه ما ألفناه من بدء الكلمات المنبرية بخطبة الحاجة فالبعدية ثم الترحيب والشكر، وهكذا وصولاً للختام والسلام. أما الملمح الثاني للتجديد فسمو الأمير خرج عن نمطية الخطاب المنبري المألوفة، فأنت وأنت تسمع النص أو تقرأه تحار في تصنيفه، بين كونه نثراً أو شعراً حراً (التفعيلة)، إذ هو يجمع بين هذا وذاك. لقد بدأ كلمته -حفظه الله - كما سبقت الإشارة أعلاه بوصف ملامح معشوقته دون أن يذكر اسمها حتى يبعث في ذهنية السامع والمتلقي سؤاله عن من تكون هذه التي يتغنى بها؟ وفي هذا كان سموه مبيناً تشكلها في أربع صفات، هي بإيجاز: - المكون الأول: طبيعتها. وأول ملمح في هذا الوصف كونها (سمراء) وهي رمزية لسلسلة الجبال الأربع التي تحيط بها من جهاتها الأصلية المعروفة، فإضافة إلى سلمى في الشرق، وأجا جهة الغرب، هناك رمان جنوباً، وأم سنمان شمالاً، فضلاً عن جبل السمراء الذي تعلوه نار حاتم والواقع وسط المدينة. ومما يميز معشوقته هذه عن بلاد الكون أجمع أن (أوجانها حمراء)، ويقصد هنا بطحائها ونفودها اللذان يتسمان بلونهما الأحمر خاصة عندما يغشاهما المطر. وفي الوصف الثالث للطبيعة التي تتسم بها معشوقته (اخضرار العيون)، فكل ما على أرضها من أعشاب ونباتات هي انعكاس لماء العين الذي يرمز لوفرة مخزونها المائي، وتتبع أمطارها وعذوبته كماء العين. ويربط سمو الأمير بين اخضرار العيون المعشبة (بالرموش الطويلة) التي ترمز للنخيل حالة تمايلها إذا هب النسيم فتضفي على النفس برد الأنس وراحة الضمير انعكاساً لجمالية المكان. هذه المكونات الأرضية لا تنفصل عن عالم السماء بحال فأنت وأنت تعيش بجسدك مستمتعاً بما حولك عليك أن ترمق ببصرك إلى جهة العلو لترى بياض الضباب وقد توشحت به هذه المحبوبة، وكأنه يؤذن بنزول غيث (يطيب الأرض). وهذا وصف إبداعي دقيق، فحين ينزل المطر يصبح لأوجان هذه السمراء احمرار، وللتراب ريح زكي طاهر نقي. من هذا المكون الطبيعي الذي حباه الله عزَّ وجلَّ لمعشوقته -حفظه الله- ونتيجة التأمل والتفكر الطويل في كل ذلك، كساها سموه ثوباً إبداعياً جميلاً غزله بمشاعره وخاطه بعواطفه، حاكه لها باتقاد ذهنه، وفحولة شعره، وجزالة عباراته، ومكنون فؤاده. - المكون الثاني: إنسان المكان. لقد أبدع سمو الأمير في تصوير إنسان معشوقته بوصفها هي نيابة عنه، فهي ما زالت محافظة على أخلاق العربي ومكارم صفاته وسماته، ولا عجب فهي أصيلة في نسبها لم تتهاون يوماً ما في المحافظة على انتسابها لهذا النسب العربي العزيز. - المكون الثالث: المكون التاريخي والتراثي. والذي لم يتوقف عنده كثيراً، بل جاء مختصراً بلا إخلال، فهو من الكثرة والطول الأمر الذي جعل نصفه ما زال في الظلام لم ير النور بعد ولم يكتشف حتى تاريخه، في الوقت الذي اعترف أن النصف الثاني من عمر هذه المعشوقة هو فقط ما جعلها تحت دائرة الضوء الساطع والذي رمز له بالشمس، وفي هذا إلماحة لرغبته الشديدة تسليط الشمس على النصف القمري المجهول. - المكون الرابع: وحين انتقل من الطبيعة والإنسان والتاريخ، باح باسم هذه المعشوقة، إنها (حائل) ليجعل ذلك مدخلاً للإشادة بالجهود المبذولة من أجلها، ذات التناغم والتوازن والروعة والإبداع، التي جعلت من هذا العمل الدؤوب والتعاون بين القطاعات التنموية المختلفة من قبل عشاقها كأبيات القصيد الرائعة. وتقديراً منه -وفقه الله- لكل العاملين معه في نظم قصيدة معشوقته طالبها أن تبتسم لهم، معترفاً بأنها هي من أجبرته أن يبوح لنا هذا المساء بعشقه لها والتغني بها، فهي لا تقبل منه الاعتذار عن ذلك، معترفاً بأنها متفرّدة بالجمال منذ الأزل، وعروس فردية عبر التاريخ. إن هذه المقطوعة الأدبية الرائعة تكشف بجلاء الارتباط القلبي بين جمالية المكان وسمو الأمير، وهذه ليست المرة الأولى التي يبوح بها سموه الكريم بهذا العشق الدافئ والحب الحقيقي لحائل، ولكنَّه هذه المرة وظَّف الرمزية في خطاب منبري بطريقة غير معهودة، وإلا كم كان -حفظه الله- مبدعاً في التغني بهذه العروس الجميلة حتى صار ملهماً للآخرين ومحفزاً للمستثمرين ومعلناً عالمية المكان، حتى إن القصائد التي قيلت في عهده تغزلاً بحائل وبوحاً بالمشاعر نحوها تعدل كل القصائد التي قرضت طوال العهود السابقة قبله، وللحديث عن باقي مفردات خطاب الأمير مقال آخر -بإذن الله- وإلى لقاء، والسلام.

مشاركة :