ناصر أبوعون اختارت عواطف العامرية الشعر النبطيّ لافتةً عريضة تعلّقها فوق بوابة إبداعها، على الرغم من تجاربها المتباينة ما بين (الفصيح) المتوشّح بأوزان الخليل، و(الخاطرة) السائرة في دروب قصيدة النثر في صورتها الأولى، وتهشُّ بعصا الحداثة على الرواية من نافذة السرد البريء من ارتداء صورة الآباء الأولين وحوارييهم المتمردين. لكن العامريّة مضت مختارةً وبملء إرادتها في طريق الشعر النبطيّ الجامع لأواصر شعوب الخليج؛ حيث تذوب الفواصل بين اللهجات، وترتفع القصيدة لتكون جسرا يعبر عليها الوعي الجمعيّ موشومًا بذائقة ثرّة، شدّت وكاء المحبة على خصر المفردة البدوية الموغلة في الغموض والترميز،و(تمنطقت) بمجزوءات ومضاعفات البحر الشعريّ مع توليد الكثير من الأنغام المبتكرة عبر التقطيع الموسيقي للجمل، وتلفعت بـ(شيلة)اللهجة الحضرية المتماهية في البساطة.تقول في قصيدة بعنوان:(ترف)[(تفاصيلها جنون مستوحى من سحابة مطر) (مرات تمطر فيض ومرات تمطر قهر) (ومرات تبتسم في نهار يشبه جمال الفجر)، (ومرات تبكي غيض وتدمع تفاصيلها عطر) (متشبعه بغطرسة بحضورها رزه وفخر(بنتاً كساها النور ضاوية في ليلة بدر) (ماشيه في دروبها ومروضة فكرها بحذر) (حضورها شامخًا بعزاً وغيابها يرثى شعر) (كومه مشاعر والحسن بوصافها عذبًا ينهمر) (واطباعها جوهر ثمين ويفداها كل العمر) (ترفًا ضواها الليل ورسم تفاصيلها سحر) (لو اكتب عنوانها بكتب تعويض وجبر القدر)]. وربّما عثرت العامرية على نفسها شخصيتها الخاصة والمتفردة في صندوق الموسيقى النبطيّ المكنوز بعدد لا حصر له من الخصائص الصوتية التي أنتجتها اللهجات النبطية التي تنوّعت بتعدد الأمكنة على امتداد عمان في المدر والحضر والمدينة، وشكلت خارطة واسعة من التفاعيل والتراكيب والقوافي وظفتها في التعبير عن غرضين لا ثالث لهما؛ الوطني والعاطفيّ. ومن بديع ما قالت في هذا المعنى قصيدة بعنوان: (محبوبتي) [(محبوبتي أحبها وتحبني وابتدي شعري بها) (فارده بفكرها و راصنه وجوارحي وكلي لها) (وجهها..كأن الطفولة كلها في طهر وجهها) (ظلها ..أسهر وأهيم وأرسم أطراف ظلها) (وافدى حروفً تداعب حنية صدى صوتها) (مشتاق لكفها الناعم الي يلامس خدها) (ساحرة..وعيونها الشهلة يصعب صدها) (لها نظرة خجولة تشكك في رقم عمرها) (تغفى بخيالها وتصحاها أحلام بذهولها) (كأنها الحقيقة بوضوحها وسرها وغموضها) (محبوبتي.. قلبي يعتلي عرش ضلوع منزالها) (والهوى معها أجمل طرب لأغنيتي وألحانها)]. تُطل قصائد الشاعرة عواطف العامري كأقمار تمزق أستار العتمة، وتتنزل من عليائها لتجلس على حصير البسطاء، وتسكب محبتها في أقداح المتولهين، وتفرغ من دلاء عشقها الوطنيّ في دنان الباحثين عن وطنٍ يشبه عُمان في فيضها، وذراعيها المفتوحتين لكل شعوب العالم. ومن هذا الغرض نقرأ لها قصيدة بعنوان: (الزعل) تقول فيها:[(أخذتك بعاتق حياتي وإذا اخطيت) (تذكرت بأني حالفه منك ما زعل) (ومرت طيوفك على بالي وحنيت) (حضنتك باسئلتي وقلبي بدأ يذبل) (امنّي انتظاري بغرامك ولا شكيت) (تفدى عشيرتي ولا اطيع بك عاذل) (وان قلت لك اببعد ورحلت وجفيت) (تأكد إن هواك شيء سامي ولا يذبل) (على كثر ما مرت خطاياك تمنيت) (الفرح برمش عيونك النعسا يكمل)]. لاتقع العامرية أسيرة للمطولات الشعرية، وتتعمّد التكثيف، بل إنه ترتكز في إبداع قصائدها على فكرة (الومضة الشعرية)، ولا تتصنّع، وتهجر المترادفات، وتفرّ من شيطان الحشو، ولا تركن إلى الإسهاب مخافة أن تترهل القصيدة، وتتقصّد توظيف (المفارقة) ليس في نهاية المقطع الشعري فحسب، بل داخل جسد البيت الشعري، وعلى نواصي الأشطر والمقطّعات. ومن هذا الضرب تقول في قصيدة بعنوان:(طيوف الأماني) [(يا أجمل من رسم في مبسمي ضحكه) (وأصدق من سرق عيوني النجلا بسحره) (يجي مثل الشروق وتتجلى بنوره العتمة) (لقيته شمس عمري وجمال كوني وسره) (وعوض صبري ورحمة على أيامي الظلمة)]. إنّ الشعر النبطي الذي تكتبه عواطف العامرية يمثل الوجه الطيّب لذاكرة البسطاء، وأصحاب القلوب المفطورة على حب الوطن، وأرض المسرات، الحامدين الشاكرين على ما آتاهم الله من فضله، شعرٌ يتعالى على النخبوية المُدَّعاة كذبا، يفترش الأرض على حصير الرضا، شعرٌ تتهاوى على موسيقى تفاعيله جدران الرصانة المصطنعة والزخرفة التزيينية الخادعة من النظرة الأولى، شعرٌ يتحدّر من فلج عُماني صافٍ تغتسل فيه الوجوه بطهور البراءة؛ فتذوب المساحيق وتسقط الأقنعة وبمثابة كلمة طيبة وقصائد لا تُنسى ناسكة لا فاحشة (فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَیَذۡهَبُ جُفَاۤءً وَأَمَّا مَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَیَمۡكُثُ فِی ٱلۡأَرۡضِ).
مشاركة :