في عالم التقنية الحيوية الذي يشهد تطورات مستمرة، ظهر اتجاه بارز خلال الفترة الماضية حيث يقوم هذا الاتجاه بتغير المشهد الاستثماري لرأس المال الجريء عالميا. بدأت صناديق رأس المال الجريء «الصغيرة» نسبيا في التفوق تدريجيا على الصناديق «العملاقة»، مما يعكس تغيرا مهما في نمط التمويل في هذا القطاع. هذا التغيير، الذي أكدته دراسات حديثة، يدل على تفضيل متزايد للمرونة والخبرة المتخصصة التي توفرها هذه الصناديق «الصغيرة» نسبيا، فماهو السبب لذلك؟ الصناديق “الصغيرة» نسبيا في مجال التقنية الحيوية، هي التي تدير عادة أصولا تقل عن 100 مليون دولار أمريكي إلى 500 مليون دولار أمريكي، تعتبر أكثر مرونة وسرعة في الاستجابة. هذه الصناديق تميل إلى التركيز على الشركات الناشئة في مراحلها الأولى وعلى المجالات المتخصصة ضمن التقنية الحيوية، وغالبا ما توفر تمويل المراحل الأولية في حياة الشركات الناشئة، مثل مراحل البذرة أو ما قبلها (Pre-Seed) و(Seed) أو الجولة الأولى للشركات التي تمتلك تقنيات واعدة ومبتكرة. تتميز هذه الصناديق بقدرتها على اتخاذ قرارات استثمارية سريعة وتقديم دعم أقرب وأكثر تخصصيا للشركات التي تدعمها، مع التركيز على الاستثمار في التقنيات الجديدة ذات الإمكانيات العالية. في المقابل، تدير الصناديق العملاقة أو الكبرى رأسمالا يتراوح بين أكثر من 500 مليون دولار إلى عدة مليارات. هذه الصناديق تمتلك محفظة استثمارات أكثر تنوعا، تشمل الشركات الناشئة في مراحلها الأولى وحتى الشركات الأكثر رسوخا في مجال التقنية الحيوية، وغالبا ما تشارك في جولات تمويل أكبر وأكثر تقدما. بفضل مواردها الواسعة، تستطيع هذه الصناديق دعم مراحل التطوير الطويلة والاستثمار في عدة جولات تمويلية لنفس الشركة المستثمر بها، وتعتمد على شبكاتها ومواردها الواسعة في التنقل بين التحديات التنظيمية والتسويقية وتوسيع العمليات. تاريخيا، كانت الصناديق العملاقة تسيطر على صناعة التقنية الحيوية بفضل مواردها الضخمة وشبكاتها الواسعة. ولكن البيانات المنشورة الأخيرة تشير إلى اتجاه إيجابي متزايد نحو الصناديق «الأصغر» نسبيا، مما يعني تحقيق عوائد أعلى ونجاح أكبر في المشاريع. هذا التحول يعيد صياغة استراتيجيات الاستثمار ويشير إلى تغيير أكبر في طرق تمويل المنتجات الحيوية المبتكرة وترويجها. حجم الصندوق يؤثر بشكل كبير على استراتيجية الاستثمار وتحمل المخاطر ونوع الشركات التي يجذبها للاستثمار بها. والقرارات التي تتخذها هذه الصناديق، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، تؤثر بشكل مباشر على مسار ونجاح الشركات الناشئة التي تدعمها في هذه الصناعة المتغيرة باستمرار. حيث تظهر الصناديق «الصغيرة» لرأس المال الجريء، التي كانت في السابق ذو حظا أقل، قدرة متزايدة ليس فقط على المنافسة، ولكن أيضا على تجاوز نظيراتها الأكبر، خصوصا من ناحية العائد على الاستثمار ونجاح التخارج من المشاريع. يشير هذا التحول إلى تغير في المنظور التمويلي لمجال التقنية الحيوية، حيث يبدو أن المرونة والخبرة المتخصصة والنهج الاستثماري المستهدف يحققون نتائج أفضل من الاعتماد على رأس المال الضخم التقليدي. تبرز صناديق رأس المال الجريء «الصغيرة» بتميزها على الصناديق الكبيرة لأسباب عديدة. فبحسب دراسة من شركة «إنفيسكو»، يتعذر على الصناديق الكبيرة تحقيق عوائد عالية كما تفعل الصناديق الصغيرة، وذلك لأن معظم نتائج الاستثمار تكون بتقييمات متوسطة. بالإضافة إلى ذلك، تظهر الصناديق الصغيرة أداء أفضل على الرغم من المزايا المتوقعة للحجم والعلامة التجارية لدى الصناديق الكبيرة. كما أن الصناديق الصغيرة تمكنت من تحقيق عوائد إجمالية أعلى بفضل نجاحات استثمارية فردية مميزة، بينما يقل تأثير الاستثمارات الناجحة على العوائد الكلية في الصناديق الكبيرة. بشكل عام تظهر بيانات “PitchBook” لأكثر من 1300 صندوق في جميع المجالات المختلفة ومنها التقنية الحيوية يعود تاريخها إلى عام 1978 والتي أجرتها شركة «Santé» أن 17% فقط من الصناديق الاستثمارية التي تزيد عن 750 مليون دولار حققت عوائد تفوق 2.5 ضعف القيمة الإجمالية لرأس المال المدفوع بعد الرسوم والنفقات. في المقابل، حققت 25% من الصناديق التي تقل عن 350 مليون دولار نفس النتيجة. هذا يشير إلى أن الصناديق الصغيرة أكثر قدرة بنسبة 50% تقريبا على تحقيق عائدات تزيد عن 2.5 ضعف القيمة الإجمالية لرأس المال المدفوع مقارنة بالصناديق الكبيرة. تصبح الفجوة في الأداء أكثر وضوحا عند النظر في معدل العائد الداخلي الإجمالي للاستثمار (IRR) فالصناديق الكبيرة لديها معدل IRR متوسط يبلغ 9.7%، بينما يبلغ متوسط IRR للصناديق الصغيرة 17.4% وفقا لتقرير «Santé». أخيرا، تُظهر هذه النتائج اتجاها جديدا في صناعة رأس المال الجريء، حيث تصبح الصناديق «الصغيرة»، بمرونتها وتركيزها المتخصص، أكثر تنافسية وغالبا ما تكون أكثر نجاحا من نظيرتها العملاقة. يتجه مستقبل تمويل رأس المال الجريء في التقنية الحيوية نحو بيئة لا ترتبط فيها النجاحات بالحجم بشكل تلقائي. مع استمرار الصناديق «الصغيرة» في تأكيد مكانتها وتحقيق عوائد ملفتة للنظر، سيزداد الضغط على الصناديق العملاقة لتحسين استراتيجياتها وإعادة تقييمها. هذا التنافس الديناميكي يبشر بمستقبل أكثر تنوعا وحيوية للابتكارات الممولة في هذا القطاع. nabilalhakamy@
مشاركة :