إن لغتنا العربية - مثل غيرها من اللغات - ليست كُلِّيَّة، ولا مطلقة نهائية إلاَّ في قواعدها التي كرَّستها عشرات القرون؛ ذلك أنها ممارسة قوم وَفَتْ لغتهم بما يُحِسُّونه من مرئي ومسموع ومشموم وملموس ومذوق، وببعض ما يشعرون به؛ إذ إنهم لم يتفننوا في التعبير عن كل المشاعر، وليس عندهم علم نفس يلتقط كل ما في الشعور واللاشعور، والوعي واللاوعي؛ فنلتمس مئات الكلمات المقابلة لما نجده في مصطلح علم النفس.. وبدأت لغتنا العربية بين أمة أميَّة لا كتاب لها في شظف من العيش؛ فلم تُرِحْها حياتها الكادحة إلى بُعْدٍ فكري نظري يحتاج إلى رموز لغوية تُدَوَّن بكتاب؛ فلما كانوا أصحاب كتاب وسَّعوا رموزهم اللغوية - وَفْق المستجد في حياتهم من معارف - باصطلاح وتوليد من لغتهم، وباقتراض من لغة غيرهم؛ فكثرت في التراث كتب المصطلحات العامة (إذْ لكل حقل علمي مصطلحاته في كتبه الخاصة به) مثل التعريفات للجرجاني، والكليات للكفوي، ودستور العلماء للأحمد نكري، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي.. ثم حاول بعض المستشرقين تكملة المعجم اللغوي التراثي بالمعجم الاصطلاحي التراثي في تأليف خاص كما في تكملـة المعاجم العربية للمستشرق رينهارت دوزي.. ومهما كان هذا الثراء عمقاً وسعة فأمتنا في إنتاجها البشري غير مطلقة ولا نهائية؛ فاستجد في الماء واليابس أحياء ونباتات لم يعرفها العرب، ولا يلامون إذا لم يوجد في لغتهم رمز لما لم يعرفوه.. واستجد العلم بمكتشفات في الأفلاك والفضاء والماء واليابس مثل العناصر الكيميائية، والموجودات التي احتاجت إلى تسمية في لغات البشر بعد العلم بها، وعللٌ في النفس، وأدواء في الطبيعة؛ فلا يلام العرب - ولا تُلام أي أمة - إذا لم يوجد في لغتهم الرمز لما لم يعرفوه، واستجدت مصنوعات بشرية كالتلفاز؛ فمن الحمق أن يُطلب اسمها من لغة سبقت وجود المصنوع المخترع!!.. إذن لغتنا (وكل لغة) بحاجة إلى الإمداد والثراء بالرمز عن شيئ استجد العلم به كالمكتَشف - بصيغة اسم المفعول - الكوني، أو استجد وجوده من المصنوعات كالتلفاز.. ولابد في هذا الإمداد من تحقيق علمي، وصدق خلقي.. ويَجْمع هذين (التحقيق، والصدق) العناصر التالية: 1 - ما عرفه العرب وسموه تُلتمس دلالته المطابقة من متون اللغة بهداية الله ثم هداية الاشتقاق اللغوي المعنوي الذي حوَّم حوله ابن فارس في مقاييس اللغة، والراغب في المفردات، والزمخشري في أساس البلاغة.. وما عدا الدلالة المطابقة من معاني الكلمة فهو دلالة تضمن، أو لزوم، أو شَبَهِيَّة.. وذلك هو المجال الأرحب لتوسع اللغة بمجازاتها. 2 - ما وصل إلينا من لغة الآخرين وعندنا له الدلالة المطابقة، فلا يحق اقتراضه بمنطق قومي يعتز بأصالته، ويُبَرِّئ أمته من دعوى الجهل بالمسمَّى مثل كوبري؛ ففي تراثنا اللغوي الجسر والقنطرة. 3 - ما علمه العرب بجهدهم الذاتي من اكتشاف كوني، أو مصنوع مخترع - وما أقلَّ ذينك في دنياهم!! -: فإنما نسميه من صلب لغتنا من مجازها الوسيع لزوماً وتضمناً وتشبيهاً.. وحكم ذلك حكم مصطلحاتنا في الفقه والأصول والحديث والتفسير والفلسفة.. إلخ. 4 - ما لم يعلمه العرب بجهدهم الذاتي أوَّلاً، وإنما تَلقَّنوه من غيرهم ممن اكتشف المسمَّى أو صنعه؛ فهذا يحكمه التحقيق والأخلاق معاً؛ فمن العيب والمهزلة أن نأتي إلى آلة صنعها غيرنا كالفاكس والتلفون؛ فنغتصبهم على التسمية من لغتنا بمجاز بعيد، أو كلمة حوشية، أو عبارات عديدة أَغْنى عنها كلمة عند غيرنا.. من العيب أن يُخلص الخواجي في الكشف، وأن يتفنن في الصنع.. ثم يأتي ابن يعرب أو معد يزاحم ويماحك في التسمية!!.. بل المثالية أن نشكر العلم وننسبه إلى أهله، ونترك لهم تسميتهم؛ لأن مكتشف الشيئ أو مخترع صنعه أولى بتسميته.. والمنهج في هذا محكوم بالتالي: أ - ما وجدنا في لغتنا الدلالة على أخص معانيه وأظهرها استعرنا له - على استحياء وخجل - اسماً من لغتنا مثل «الهاتف» اسماً للتلفون؛ فالتلفون صنع خواجي، والهاتف تسمية عربية.. ونطلب الصفح والإقالة والمعذرة: بأن ذلك أسهل لنا نطقاً، وأن مدلولنا العربي مطابق لأخص خصائص التلفون. ب - الْمُسْتَثْنى في «أ» لا يعفينا من اقتراض ما تسمح به أوزان لغتنا من النحت والاشتقاق؛ فنقول: تلفن له تلفنة. ج - إذا لم نجد في لغتنا لفظاً واحداً يدل على أخص خصائص المسمَّى الجديد فإننا نقترضه، ولا نسميه بأكثر من مفردة، ولا نخضعه لاسم عربي يدل على شيئ من معانيه وليس هو أظهرها كالفاكس.. فإن كانت صيغته الوزنية ثقيلة حوَّلناه إلى أوزاننا مثل التلفزيون نُحوِّله إلى تلفاز بالاستحياء نفسه الذي ذكرته آنفاً. د- ما نقترضه نتعاطف معه بلا استحياء؛ فنشتقُّ منه كما نشتق من مفرداتنا؛ فنقول: فاكَسَه، وتلفزهُ.. بل أبعد من ذلك ننحت من الكلمتين المقترضتين لفظاً واحداً للاختصار على منهج: البترو دولار، والقرو أوسطية - أو «وسطوية» على لغة أصحاب الخطاب الحداثي -، وزمكانية. ه - ما كان من لفظ خواجي ذي معانٍ كثيرة تدور في معايشتنا الثقافية الراهنة - وإن لم تكن معانيه من الاكتشاف أو الاختراع الجديد -: فإننا نقترضه لفظاً، ونترجمه بألفاظ.. وتزامُنُ الترجمةِ والاقتراض كفيل بأن يجعل اللفظ المقترض ذا معهود لغوي واضح في تراثنا المكتسب وذلك مثل أيديولوجية، ورومانسية. و- ما كان من لفظ خواجي مركب لعلم جديد، فلنا أن نترجمه بألفاظ، ولنا أن نقترضه.. والاقتراض أمثل وأصدق كالاستاطيقا؛ لدلالتها على أمشاج من علم الجمال، والأخلاق، والتفكير، وليس في لغتنا ولا في مصطلحاتنا التراثية ما يدل على معانيها. ز - ما كان من لفظ خواجي مركب لعلم غير جديد، وهو من لفظين فالأولى ترجمته لا اقتراضه مثل الإبستمولوجيا، فنظرية المعرفة هي الأولى بالتعبير، وقد نجعل الإبستمولوجيا بعد كلمة (نظرية المعرفة)، ليظل العربي على علم بالمصطلح الخواجي. قال أبو عبد الرحمن: وخلاصة ما مضى أننا نترجم اللفظ لما في لغتنا تسميته، ونقترض اللفظ لما هو جديد في لغتنا، ونطلب الإيجاز باقتراض لفظ خواجي لا تتم ترجمة معانيه إلا بمفردات كثيرة، وتكون الترجمة مزامنة للمصطلح المقتَرَض حتى تصبح معهوداً تراثياً راسخاً في الذهن مُبيَّنا في الكتب.. وبعكس ذلك المنهج الذي أحكم سياجه التحقيق والخُلقُ: منهج من يطرحون الاسم العربي ويأخذون الاسم الخواجي ومعنى الاسمين واحد؛ فهذا غربة عدائية، وتنكُّرٌ لأمرٍ كياني وهو اللغة، وهزيمة رائدة لسلخ الخصوصية.. وبعكس ذلك أيضاً المنهج: منهج من يطرحون الاسم العربي ويأخذون الاسم الخواجي وليس معنى الاسمين واحداً في اللغتين، وإنما بينهما تقارب في الواقع، أو تقارب في الادعاء كجعل الدكتور حنفي قبلياً بمعنى شرعي؛ فهذا تعمُّد تضليل وشغب يرتفع فيه حسن النية، ويُحوج الطلائعَ المخلصة من أمتنا إلى أن نتعامل معه تعاملاً غير ليِّن مضموناً وأداء. قال أبوعبدالرحمن: هذه هي معايير التجديد في اللغة؛ لتقوم بالأداء المباشر.. وتبقى دعوى التجديد في اللغة؛ لتقوم بالأداء الأسمى الذي هو الأداء الجمالي، وذلك يتعلق بالمفردة والكلام المركب (الأسلوب).. فأما المفردة فلا يُسوِّغ استبدالها بمرادف من لغة أجنبية دعْوى أنها أجمل؛ لأن المفردة لبنة كيانية مرتبطة بمدلول في تراثنا، بل نحافظ على لغتنا كما هي، ونختار اللفظ المرادف الأجمل من اللغة نفسها، وميزة اللغة في جمالها بكليتها لا بشواذ المفردات.. وأما الأسلوب فهو عمل عقلي لا نقلي - إذا سلم الكيان بقانون النحو، وسلمت الجزئيات مفردة وصيغة ورابطة -، ومقوِّم الصحة عقلاً كل مقومات البلاغة من إبداع عربي فصيح، أو عامي، أو غير عربي؛ فالتراث الأدبي الجمالي العربي إرث عالمي إلى أن تقوم الساعة.. والأديب الحداثي يُفَجِّر لغة قومه، ويُخلِّصها من الرتابة والسأم، فقد عشق العربي أيَّ مجاز علاقته الاستبطان النفسي لا مجرد العلاقة الحسية أو العقلية، وذلك في تراسل الحواس بوصف المشموم بالمسموع، والحسي بالنفسي كما في تعبير بودلير عن الحب المعنوي بتركيب حسي هو الشمس الحمراء؛ لما تثيره هاتان المفردتان الحسيتان من مدلول نفسي، وكوصف القبلة بأنها حارة.. وعشق العربي طريقة التصويريين بتوسيع الكناية نفسها كما في تحليلي لقصيدة سوق القرية للبياتي [..انظر كتابي: القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز /الطبعة الأولى عام 1407هـ ط م الفرزدف بالرياض ص 53- 59. ]، وكأخذ معان في المسمَّى يُوَسَّع بها مدلول الاسم نفسه، وكتجميع التداعيات - تداعي المعاني، وتداعي الذكريات - كالقشعريرة والضوء ولهب من مسمى النار.. مع أن القشعريرة انطباع من البرد الذي يستدعي النار، وذلك ما يسميه المنطقيون بدلالة الانطواء[..انظر كتاب التقريب لحد المنطق للإمام أبي محمد ابن حزم/ضمن رسائل ابن حزم الأندلسي؛ تحقيق الدكتور إحسان عباس. - الطبعة الأولى عام 1983م/المؤسسة العربية للدراسات والنشر 4/263-264 ]..وإلى لقاء قريب عاجل إن شاء الله ، والله المستعان. ** كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) ـ عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين ـ
مشاركة :