صناديقنا هي فروضهم العلمية - د. إبراهيم المطرودي

  • 3/31/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كثيراً ما أسمع قول القائل: ما زلتَ تعيش داخل الصندوق، وتُفكّر من خلال ما فيه، ولم تملك بعدُ جرأة أن تخرج منه، وتنظر إلى ما حولك بعيدا عن صندوقك، وما فيه. كثير من الناس يوردون هذه الكلمة في حواراتهم، وهي فكرة تفسح مدى كبيرا للأمل في أن يصبح هؤلاء قوما يعيشون خارج الصناديق التي صُنعت لهم قديما، وشُيّدت لهم في الحديث؛ بيد أنهم، وللأسف الكبير، غارقون في صناديقهم، كما يقال، حتى آذانهم؛ بل لم يخطر في بالهم ساعة أن هذه الصناديق صناعة بشرية، كُتب لها أن تدوم حين فقد الإنسان القدرة على تمحيصها ونقدها ومراجعتها. إذا ذُكر البحث العلمي، ودوره المنتظر في مراجعة فروض أسلافنا التي أضحت لنا صناديق؛ وردت على البال الجامعات؛ فهي حاضن رئيس من حواضنه، إن لم تكن حاضنه الرئيس، والمؤمل منها أن تُعين المسلم المعاصر على التعافي من صناديقه المذهبية، أنا سعيد بصندوقي، ومؤمن أن مثل هذه الجمل التي يتداولها الناس كاذبة، وأن أول الكاذبين هو من يستعملها، ويُقابل بها الناس حين يتحدثون؛ فهذا القائل، وربّما قابلتم أضرابه، يكذب علينا من جهتين؛ الأولى إظهار نفسه إنسانا مستقلا، يصنع صندوقه كما يحلو له، والثانية إيهامنا أن الأصل في كل إنسان أن يكون له صندوق مستقل، من الألف إلى الياء، وكل هذا دعاوى لا تصمد أمام يسير من النظر وقليل من التفكير؛ بيد أننا نعثر في دروب الحياة على هؤلاء البشر الذين يكذبون على الناس، ولم يدروا بعد أنهم على هذه الخصلة الذميمة مقيمون. هذه الطائفة من الناس، يُسمّمون أدعياء الاستقلال، ومنتحلي الخروج عن الصناديق، وهم حين تُوجه لهم هذه الأسئلة: هل يوجد مجتمع حر، يقود بنيه إلى الاستقلال، ويطلبه منهم؟ هل في الأسر اليوم أسرة تؤمن بمسؤولية الإنسان عن نفسه، وتفسح له مدى التفكير؛ فيذهب في السؤال والاستكشاف بعيدا عن مألوفها ومأثورها؟ وهل تعرف فردا يمنح بنيه وبناته حرية الاختيار، ويبسط لهم في أقل المسائل حرية تجعلهم يملكون خروجا يسيرا عن تلك الصناديق؟ ولو وُجِد مثل هذا الإنسان، وأدركتَه، فما رأيك فيه؟ حين يسمع هؤلاء، القاطنون خارج الصناديق بزعمهم، هذه الأسئلة يهيمون على وجوههم، وتخرس ألسنتهم، ويعم صمتهم المكان بعد أن كان هدير حديثهم يملأ أرجاءه، ويزعج من فيه؛ فهم خائفون الخوف كله من الحرية الفكرية، ومنزعجون منها، ومن الإيمان بها؛ غير أنهم ما زالوا يرددون علينا هذه المقولة كل حين: أيها السادرون في صناديقكم! هلّا خرجتم إلى سعة العقل، ورحابته؟ والأبعد من هذا كله أن يقبل هذا الإنسان، المدّعي كذبا تخلصه من صندوقه.. البحث العلمي الحر هو الذي يُؤسس فكرة مراجعة الصناديق، وتفقّدها، ونخلها من جديد؛ فالبحث العلمي الحر يُعدّ عدوا لدودا لما تحويه هذه الصناديق، وتشتمل عليه، وعدوا لمن رضي بصندوقه، وآمن بما فيه، وهذا ما يجعل البحث العلمي عندنا جرما بلا روح، وشكلا بلا محتوى، وفكرة بلا طعم، ومن ذا الذي يُفكّر في اختبار صندوقه، وتفقد ما فيه؟ وأين من يؤمن بروح البحث العلمي، ويتلبّس به حقا، فينظر إلى صندوقه الموروث كفرض، لم يُسمح باختباره مرة أخرى بعد مُنجزه؟ ومن ذا يستطيع أن يُقرّر في المذاهب الدينية، وما يتصل بها من علوم، ما قرّره هوكينج في النظريات الفيزيائية؟ في كتابه المحرّض على التفكير، والجالب لكثير من الأسئلة، يقول أستاذ الرياضيات في جامعة كمبردج ستيفن هوكينج: "أي نظرية فيزيائية هي دائما مؤقتة، بمعنى أنها فرضية فحسب؛ فأنت لا تستطيع قط أن تبرهن عليها، ومهما زادت مرات اتفاق نتائج التجارب مع نظرية ما، فإنك لا تستطيع قط أن تتيقن من أنه في المرة التالية لن تتناقض النتيجة مع النظرية" (تأريخ موجز للزمان، 35). النظريات الفيزيائية كان في الإمكان أن تكون صناديق يعيش فيها الفيزيائيون، ويبذلون جهودهم في الانتصار لها، والتأويل لكل ما يُخالفها من الظواهر، فتصبح حينها مثل كل الصناديق المذهبية التي ورثها المسلمون؛ بيد أن البحث العلمي الحر حال دون ذلك ومنع منه، وجعل العلماء ينظرون إليها هذه النظرة التي يطرحها عالم الرياضيات هوكينج، ويؤكد عليها. السر في هذا الموقف الذي يتحدث عنه هوكينج هو البحث العلمي الحر، وهذا هو ما يفتقده المسلمون، ويحتاجون إليه، وهو الشرط الوحيد للتخلص من الصناديق الموروثة، مشتركة كانت بين المسلمين أم مقصورة على مذهب من تلك المذاهب، فلا سبيل إلى خروج المسلمين من تلك الصناديق إلا بالبحث الحر؛ فهو الذي يختبر تلك الفروض، ويعرضها على الثابت، وهو النص، وبه يستطيع المسلم أن يتفقّد صندوقه الذي عاش فيه، وتشرّب ما فيه، وليس على من يريد بقاء تلك الصناديق، وإطباقها على العقل المسلم؛ إلا أن يرفض البحث العلمي الحر، أو يأخذه بلا روحه، وهي الحرية الفكرية؛ فالعلاقة وطيدة بين خلود الصناديق وطول بقائها، وبين فقدان الحرية الفكرية التي تُعدّ شرطا للبحث العلمي، لا يمكن أن يتنازل عنها أهله الصادقون فيه، ومن يتنازل عنها؛ فليس بباحث علمي، ولا هو قريب منه، ومن يتنازل عنها، بله من يحاربها ويقف في طريق أهلها، يسعى من أجل أن تبقى في صندوقك الذي ورثته، ووجدت من حولك فيه، ويُجرّدك من السلاح الذي لا سلاح سواه في مواجهة أخطاء تلك الصناديق وهنات أهله. البحث العلمي يرى الصناديق كلها فروضا، لا أكثر، وإذا أردنا أن ننساق وراء الأساس المتين للبحث العلمي، وهو القضية المتفق عليها بين مرتاديه والمؤمنين به؛ فليس معنا شيء ثابت سوى النص فحسب، وإن لم نذهب إلى هذا، ونقنع به، فنحن مضطرون للقول: إن البحث العلمي، بحلته الجديدة، غزو فكري، يُراد منه أن نعيد النظر في ثوابتنا المذهبية التي ورثناها عن آبائنا الأولين، هذا هو مصيرنا مع البحث العلمي إن رفضنا الحرية الفكرية فيه، وملنا إلى استيراده دون شرطه. وإذا ذُكر البحث العلمي، ودوره المنتظر في مراجعة فروض أسلافنا التي أضحت لنا صناديق؛ وردت على البال الجامعات؛ فهي حاضن رئيس من حواضنه، إن لم تكن حاضنه الرئيس، والمؤمل منها أن تُعين المسلم المعاصر على التعافي من صناديقه المذهبية، فالمتوقع منها أن تُصحح التربية التي يتلقاها المسلم في أسرته ومجتمعه، وتسعى في دفعه للتفكير، وتحميله المسؤولية؛ لأننا دون ذلك سنصبح منافحين عمّا تعلمناه في الصغر، وفُرض علينا حين كنا لا نُدرك معاني البحث وطرائق النظر؛ فالجامعات منتظر منها أن تساعد الإنسان على استرداد عقله، وحقه في التفكير، الذي حالت دونه ظروف الأسر، وأحوال المجتمع، ولا تكون طورا آخر من أطوار تكريس ما نشأ عليه، وتلقاه في تلك المرحلة، ومرتقب منها أن تحرص على عودة الإنسان إلى فطرته التي فطره الله عليها، وهي التفكير وإثارة الأسئلة حول تلك الصناديق الموروثة، بعد أن طمسها المجتمع، وغيّبتها الجماعة.

مشاركة :