البحث العلمي والمذهبيات - د. إبراهيم المطرودي

  • 4/21/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

للابتداع والابتكار جناحان؛ أيمنهما الحرية الفكرية، وأيسرهما البحث العلمي، والبحث الحر هو آلة العقل في كل زمان ومكان لمواجهة الإلف والمألوف والرتابة المسلمون محتجزون في صندوقين؛ الأول صندوق فيه مجموعة من المسلّمات حول علاقتهم بالعالم المحيط بهم وأهله، وهو صندوق مشترك بينهم، وإن اختلفت بيئاتهم وأزمانهم، ولعلي لو قلت: متفق عليه، ومجمع على ما فيه! لم أبعد في القول؛ فالمسلم الذي يعيش في إندونيسيا لا يختلف عن المسلم الذي يعيش في بلادنا العربية، فهو يُضمر تجاه الآخرين الشيء نفسه، ولعل في قول المفكر الإندونيسي أولي الأبصار عبدالله: "إن الجدار الذي يضعه المسلمون بين (نحن) و(هم)، أو بين حزب الله وحزب الشيطان، هو مرض اجتماعي خطير سوف يدمر كل قيم الإسلام" ما يكشف عن هذا المشترك بين المسلمين؛ وإن تباعدت بلدانهم. الثاني صندوق فيه ثلة من المفاهيم حول علاقة المسلم بأخيه الذي يُخالفه في مذهب عقدي، واتجاه فقهي. هذان الصندوقان قديمان، وما فيهما موروث، وليس شيئا أتى به أهل هذا العصر؛ فالأمة الإسلامية تميل إلى الوراثة، وتتصف بها، وتُعدّ الوراثة صفة عامة، لا يخلو منها مجتمع مسلم، ولا ينجو منها أحد، ومعظم الخطابات النقدية تتجه إلى هذا المدخل، وتعتمد عليه في إصلاح الحال، وبعْث المسلمين من جديد، وما الوراثة سوى الوجه الآخر من الآفة التي طالما حذّرنا منه كتاب ربنا، وهي التقليد واتباع الآباء. ونحن إذا نظرنا إلى المسلمين هذه الأيام؛ أدركنا أن حلحلة هذين الصندوقين، ونخْل ما فيهما من مفاهيم؛ يكمن في إبرازهما، والإلحاح في وصفهما، وتبيان آثارهما علينا، وعلى الأمم المجاورة لنا، فمعظم ما يعوقنا، إن لم يكن كله، عائد إلى هذين الصندوقين اللذين ورثناهما، ووقفنا على ما فيهما، ولم يكن لنا منهما موقف نقدي، وإن وُجد مَنْ يحاول أن ينتقد شيئا مما فيهما، برز له كثيرون منا، وحاولوا ثَنْيه ما استطاعوا إلى هذا سبيلا؛ فلا نحن راضون بالانفتاح على الآخرين في هذا العالم من حولنا، ولا نحن منفتحون على إخواننا المخالفين لنا، ومع رسوخ هاتين الخلّتين فينا إلا أن بعضنا ما زال يُفكّر في البحث عن الصواب، والسعي وراءه، وكأنه يرى البحث منفصلا عن الانفتاح وثقافته، أو كأنه يؤمن أن الإنسان يملك قدرة على مراجعة بيئته، وتصحيح شيء من ثقافته، وهو لم يعرف غيرها، ولم يطلع على سواها، وهو المعنى الذي ناهضه ابن حزم حين قال:" ومن لم يسمع إلا من عالم واحد أوشك أن لا يحصل على طائل، وكان كمن يشرب من بئر واحدة، ولعله اختار الملح المكدر، وترك العذب. ومع اعتراك الأقران ومعارضتهم يلوح الباطل من الحق، ولا بدّ، فمن طلبُه كما ذكرنا أوشك أن ينجح وأن لا يخفق سعيه، وأن يحصل في المدة اليسيرة على الفائدة العظيمة" (رسائل ابن حزم، رسالة مراتب العلوم). يُؤدي هذان الصندوقان دورين خطرين في حياتنا؛ فأولهما الحيلولة دون خروج الأفراد عنهما، وعرقلة أي جهد فكري يتصدّى لما فيهما، وثانيهما الإضرار الشديد بالبحث العلمي، والوقوف في وجه من يبتغي أن يتّخذه مدخلا إلى دراسة ما في هذين الصندوقين من آفات وأخطاء، وأشد هذين الضررين الثاني؛ لأن البحث العلمي هو الوسيلة الوحيدة، والطريقة المأمونة، في مراجعة تلك الصناديق، وتخفيف آثارها على المسلمين، أفرادا ومجتمعات، ومتى فُقِد البحث العلمي، وحُورب القائمون به؛ فما من سبيل إلى الخروج من أخطاء الماضي، وزلات أصحابه. من صفات المجتمعات، وكذا الإنسان، التقلّب بين حالين؛ الأولى التقليد والمتابعة، وهي الحالة الغالبة على بني الإنسان ومجتمعاتهم، والثانية الابتكار والابتداع، وهي حالة نادرة، وصفة شاذة في حياة المجتمع وأفراده، يزيد هذا الوصف صحة في حالنا، نحن المسلمين، أن نلتفت إلى تأريخنا، ونتفحّص زمن الابتداع والابتكار، ونقارنه بزمن الركود والجمود والتقليد والتبعية؛ فإن كنا نقبل أن معظم تأريخنا تقليد ووراثة وجمود؛ فعلينا أن نحرص على هذه الحالة الشاذة، ونبذل لها ما يكفل وقوفها، وقيامها بدورها؛ فهي الوجه الآخر من الحياة، ودون قيامها سيستبدّ بنا الوجه الآخر، وهو التقليد والمحاكاة والوراثة، وليس من الذكاء والحكمة أن يخلو الجو للضد، ويُحارب ضده؛ لأن التدافع بين التقليد والابتكار، وهما ضدان، يحفظ المجتمع، ويكفل له المعاصرة، ويحول دون استبداد ضد بالحياة وتوجيهها دون ضده. للابتداع والابتكار جناحان؛ أيمنهما الحرية الفكرية، وأيسرهما البحث العلمي، والبحث الحر هو آلة العقل في كل زمان ومكان لمواجهة الإلف والمألوف والرتابة، وإذا ما خسر الإنسان هذه الآلة، وغابت عنه، ورفضتها المجتمعات، ورضيت بالحياة دونها؛ فقد قيل للمألوف: استبد، وقيل للرتابة: حلي، ونادى الناس جميعا بالتقليد: أن أقم. تُشكّل البيئة المذهبية، وكل المجتمعات المسلمة كذلك، أكبر عائق يُواجه آلة المسلم (البحث العلمي) في مناهضة التقليد، وتخفيف آثاره، والتعافي من آفاته في علاقة المسلم بأخيه، وعلاقة المسلم بغيره، وعلاقته بالمعرفة المحلية والعالمية، والشواهد على هذا قديما وحديثا كثيرة جدا، وما دامت ثقافة التقليد هي الأصل في تأريخنا، ونسق الوراثة هو المتحكم، فليس بمستغرب عند أي مسلم أن يقف التقليد في وجه التجديد، ويأخذ بتلابيبه، ويسعى جاهدا في محاربة أهله، والحيلولة دون سماع الناس أصواتهم، والحجة في هذا كله أننا لم نسمع بهذا في آبائنا الأولين، ولم نروه عن سادة مذهبنا الأقدمين. ومن شواهد وقوف ثقافة التقليد في وجوه الباحثين العلميين، ومحاصرتهم، والتضييق عليهم، وتخويفهم من إبداء آرائهم، يحضرني في هذا المقال قصة طه جابر العلواني، بعد أن ألّف كتابه "لا إكراه في الدين"، وأظهر فيه الخفايا التي كانت تحول بينه وبين نشره في الناس، وإليكم قصته كما جاءت فيه كتابه: "واعترض بعض الإخوة على النشر خوفا على المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي كنت رئيسه!، آنذاك، أن يتضرر بموقفي في هذا الموضوع، ثم استقلت من رئاسة المعهد (1996م) فقيل: أمسك خوفا على الجامعة التي ترأسها، ومرّت ست سنوات، وبدأ السن يتقدم، والأمراض تتكاثر، ولا أريد أن ألقى الله وقد كتمت علما منّ الله به علي" (16و17). قصة طه العلواني هي نموذج من عشرات النماذج، بل مئاتها، تُرينا المخاوف التي تثيرها ثقافة التقليد ورجالها في نفوس الباحثين، وتبعثها فيهم، فتجعلهم يجبنون، كما هي حال هذا الباحث، عن نشر آرائهم، وإبدائها. خاف العلواني من رأيه في حد الردة على المعهد الإسلامي أن يتضرر، وخشي بعدُ على الجامعة التي يرأسها أن تُؤخذ بجريرة وجهة نظره، فأخفى رأيه عن الناس، ووارى قوله عنهم، ولولا خوفه من الموت والمرض؛ لبقيت دراسته طي الكتمان، بعيدة عن متناول الأيدي، هذه هي حال كثير من الباحثين الذين يُفكّرون في مقاومة التقليد وثقافته، ومناهضة أنصاره، وليس في أمة الإسلام عيب هو أشد عندي من هذا العيب، وأكثر إيلاما منه، ولو عيب المسلمون بكل عيوب الحياة، وأُلصقت بهم، واتُّهموا بها؛ ما كان ذلك بضارهم عندي ضررا كضرر هذا العيب الذي يجعل بعضهم يخاف بعضا، فيمنعه خوفه من أن يقول رأيه، ويُبدي فكرته، ولستُ أرى الأمم الأخرى اليوم لائمة لنا على شيء مثل لومها لنا على هذا العيب، ولا مستغربة من أمر من أمورنا مثلما ستعجب من حالنا هذه، ولستُ أرى فرقا كبيرا بيننا وبينهم إلا في هذه القضية، فهي أمم تُقدس البحث العلمي، وتقف معه، وتحتكم إلى نتائجه، ونحن مع البحث العلمي متى كان صديقا لمذهبياتنا، وناصرا لها، وضدّه حين يُبدي غير المناصرة لها، والدفاع عنها، وبهذا تصدق على ثقافتنا المذهبية المقالة التي نُكررها حين الحديث عن الأعداء، ومواقفهم منا، فهذه الثقافة تجعل "التأريخ يُعيد نفسه" في كل حقبة، وتمنع كل من يُحاول أن يجعل التأريخ المُقبل على غير تلك الصورة الماضية؛ فلننتبه لثقافتنا التي ترغمنا على نسج حكاية مكرورة، وبناء قصة مُعادة.

مشاركة :