عندما يسعفك الحظ بالقراءة لنجيب محفوظ فأنت واجدٌ لذتين، القصة بعمقها وتعرجاتها،واقعيتها وشخصياتها التي تتنفس مثلنا وتحيا بين الحروف مثلنا وتتقلب دون ناظريك أرواحًا شاخصة تراها رأي العين وتحسها وتقترب منها بأكثر مما كنت قط قريبًا لروحك الماثلة بين جنبيك، واللذة الثانية هي اللغة وآه من جمال لغة نجيب محفوظ حيث النيل سارحًا أمامك وأسراب الحمام تهفهف فوق مياهه الصافية الزرقاء، وحيث الغبار والسقف العالي والضجر يكاد يخنقك والحب يكاد يلسعك والحياة تجري نهرًا بين يديك. ثرثرة فوق النيل، ماذا فعل لي نجيب محفوظ في هذه الرواية ؟، لقد أحالني إلى مدمنة، لست أتكلم عن إدمان الرواية ولكن عن الإدمان الحقيقي، طوال ما يربو عن الصفحات المائة ونحن في تيه مع أنيس، تندمج النهارات بالليل فلا نكاد ندركها، ولا نستفيق إلا على بدايات سهرة جديدة في العوامة، ولا نميز إلا صوت ثرثرة الجوزة وأصوات الضحك والعبث المخلوط بالجد، طوال الوقت لا يشغل تفكيرك سوى من قتل القيصر، وأين ماتت كليوباترا وأين كان الروم يدفنون رؤوسهم ؟ وأين تختبئ الظلمات لمّا تبددها أنوار الفجر ؟! ملكوت طويل مغيّب ومغرق فلا تستطيع الإفاقة منه أو التنصل من توهانه، والحوت الذي يخاطبه ليلًا وهو على ظهر العوامة فيسر له بأخبار الكون وما كان وسوف يكون من أنباء صحبه ! وتُقبل إليهم وافدة جديدة، سمارة الصحفية المحنكة اليافعة القوية، وتختلف عن الأخريات بإبائها المقرون باللطف، وبجديتها الممزوجة بالضحكات العابثة، وبفضولها الكبير لكل منهم، وبالمسرحية التي تعدها وتستمد خيوطها من كل بطل منهم. ثم ذات ليلة تقرر الصحبة الخروج إلى هواء الليل، حيث الأشجار المتشابكة والظلمات المخيمة وأشباح الفراعنة المتبعثرة في كل مكان وخلف كل ظل، يرفض أنيس الخروج معهم فيصطحبونه رغمًا عنه، وتحت وطأة "الكيف" والذهول والجنون يزيد رجب قائد عربتهم من سرعته إلى حد جنوني، ويصرخ الجميع مهيبًا به أن يتمهل، لكنه لا يفعل حتى تطيح العربة بشبح أسود، ويتبدى لأنيس أشلاء صرخته تسبح في الهواء الراكد وصوت السقوط المكتوم من خلفهم، وتقرر الجماعة الفرار! هكذا ينتشرون في الطرقات ويعود أنيس للعوامة الخالية ولأول مرة يشهد إشراقة الغسق وتغريدة البلبل الأول ومنظر إفاقة الكون ! لأول مرة لا يوجد الكيف ولا يوجد المزاج ولا توجد الرغبة ! وفجأة تجد نفسك خائفًا مثله وتدرك لأول مرة أنك لم تكن مفيقًا في هذه الرواية قبل هذه السطور ! وأنك ولأول مرة تواجه العالم صاحيًا متيقظًا وواعيًا لكل حرف وكل مشهد وكل صوت ! ورغمًا عنّا يتسلل إلينا فزع أنيس وخوفه ! النخلة المثقلة بالتمر والتي لم يرها قبلًا برغم أنه سار في ذات هذا الطريق لعشرات المرات، الشمس الساطعة تلسع وجهه وتمس بحرارتها جسده، أصوات العابرين تخاطبه ويخاطبهم، وأخيرًا اختبر مشاعرًا ما أحسها قبلًا وتملكه الغضب بديلًا عن حالة الذهول والتوهان التي كانت تستغرقه، غضب على المدير الذي يزدريه، غضب على الزملاء الذين ينظرون إليه باستخفاف وغضب على رجب، السائق المجنون والمسؤول الأول عن حادثة القتل التي كانت، واجتمعت الرفقة في العوامة وقد غادرتهم لحظات الأنس والنشوة واللذة، وحل الوجوم والخوف والضيق زائرًا ثقيلًا لا يرحل، وتشاجر أنيس مع رجب وصرخ وسط الدماء والضربات "كل شيء يهون إلا جريمة القتل"! وأصر على الذهاب إلى الشرطة والاعتراف بالجرم الذي كان، وصاح رجب، الممثل المشهور فاتن النساء وساحرهم "التعيس لا هم له أن يهدم المعبد على من فيه فلا حياة له ولا شهرة". وغادر الجمع وحالهم تجمع بين التهدئة والقهر والغضب، وبقي أنيس وسمارة يواجهان الليل وينظران إلى النيل النائم دون أن تلتقي نظراتهما، ولأول مرة تتبادل معه حديث العقلاء وتفهم أي إنسان هو أنيس وأي رجل يختبئ خلف غلالة الكيف ودخان الجوزة، وجاء عم عبده بفنجان القهوة لتتوه رأسه من جديد ويقطع حديثها عن تأملاته في القرد "أصل المشاكل جاء من قرد، كان يمشي على أربع وقرر المشي على اثنتين"، تفهم سمارة الإشارة وترحل في هدوء. تُرجم الفيلم إلى عمل سينمائي خرج للنور عام "1971"، الفيلم كان من إخراج حسين كمال وأدى دور البطولة فيه عماد حمدي وأحمد رمزي وميرفت أمين وماجدة الخطيب وغيرهم، ويصور الفيلم الصحبة التي تجتمع حول قرقرة الجوزة وهم على اختلاف طبقاتهم وتفكيرهم وتعليمهم وأعمالهم، قد اجتمعوا على هذا اللهو ووجدوا فيه هروبًا من الواقع الذين يأبون عيشه ويكرهون تفاصيله.
مشاركة :