يقول الروائي أمير تاج السر: الرواية البوليسية لن تكون من أجناس الكتابة العربية الشائعة في أي يوم من الأيام، وأي محاولة لكتابتها بأدوات فقيرة ستكون مغامرة. ربما استند الروائي في توقعاته إلى هدوء المجتمع العربي وخلوه إلى حدٍّ كبير من الجريمة واعتبارها أمراً طارئاً على نمط الحياة الوادع. وربما اعتقد فيما قال إلى أن الأدوات التي يستخدمها الكتّاب العرب - كاللغة مثلاً - لا تتناسب وهذا القالب الأدبي؛ فهم يميلون إلى الشاعرية وتنميق اللغة واختراع التراكيب الغريبة واستهداف العاطفة وإثارة المشاعر, بينما لغة العمل البوليسي تحتاج إلى المباشرة والقصد لأن الهدف فيها هو التوضيح وكشف الحقائق. ولكننا اليوم أمام رواية سوف تجعلنا نعيد الحسابات ونتحلى بالعرض الموضوعي المتأني القائم على تجربة فعلية ماثلة أمامنا وهي جريمة دبي. في البداية طرحت عدة أسئلة للولوج إلى ثنايا الرواية ومحاولة الوصول إلى العمق الفلسفي لها؛ فهي وإن كانت بوليسية بطرح تحليلي منطقي يقوم على الدليل والبرهان؛ إلا أنها تتضمن فلسفة من العيار الثقيل لا زال البشر يقفون أمامها حيارى، سوف أتناوله في الصفحات القادمة. س/ لماذا دبي؟ دبي أرض يجتمع فيها وعليها الناس من شتى بقاع العالم وخاصة البلاد العربية. فشخوص الرواية من السعودية والمغرب ومصر ولبنان والأردن وحتى من مواطني الإمارات وأخرى ثانوية من البلدان الآسيوية, وحتى تركيا حضرت المشهد متمثلة في القهوة ذات النكهة الشهيرة. دبي أرض الفرص وتذكرني بأميركا التي وصفت بأنها أرض الأحلام. يقول الكاتب: حامد الشريف (لا يملكون الجمال فيبحثون عنه لدى الآخرين). جمال المال ...جمال الحب ...جمال الاستقرار... جمال الأمان. دبي مساحة يتعايش عليها البشر يحكمهم القانون. أما دينك /جنسك/ أصلك وفصلك /عنصريتك ...احتفظ بها لنفسك. لكل فرد في هذا المحيط مساحة من الحرية ...حتى بعض الأزواج والأحبة لديهم حريات، وخطوط حمراء. البعض فيها يعيشون مثل الآلات؛ عمل وجهد وكدح. نظام لاهث خلف المادة حتى إذا جاء وقت الإجازة الأسبوعية وتسيدت المتعة الموقف ...أصبحت الرغبة بلا حدود. ولا مجال في هذه اللحظة للمروءة والغيرة والتملك. ومن هنا ينشأ الصراع المكبوت وتتفجر رغبة القتل والإقصاء. - كيف أتزوج وأقف متفرجاً على خيانة زوجي وزوجتي؟ - كيف أحب وأرى من يشاطرني فتاة أحلامي؟ - كيف أرى الرجل اللعوب الماجن يلهو بأعراض الفتيات وأقف متفرجاً؟ - هل يحق للمرأة المغتصبة أن تقتص من مغتصبها بنفسها؟ - كيف أحقق الثراء بأسرع طريقة؟ من هنا تتولد الجريمة ... يوجد الدافع وما الجريمة سوى الفعل الملموس للدوافع. لقد قامت الرواية على ركائز الحبكة البوليسية وهي الضحية والمتهمون والمحقق وإضافات أخرى تخدم الحدث وتتسق معه. الضحية أو القتيل / يقوم الكاتب بكشف أسراره وتعرية حياته والتأثير على القارئ بحيث يتعاطف معه ويتحمس للقصاص من الجناة. أوقد يتحامل على الضحية ويوجد الأعذار لمن قام بقتله. المتهمون/ وهم رجال ونساء لكل منهم دافع مبرر فيسلط الكاتب الضوء على كل واحد منهم ويضيق الخناق حوله في سرد مراوغ ونحن نلهث وراءه حتى نكاد نقسم أنه القاتل. وفي كل مرة نعود لنحاصر متهماً آخر. أما المحقق فهو الشخصية الرئيسة كحال المحقق بوارو في روايات أجاثا كريستي. يحق له مالا يحق لغيره لذلك تأتي الكلمات على لسانه حاسمة غير قابلة للشك وتكون شخصيته مثالية إلى حدٍّ ما حتى يمكنه الكاتب من قول الحوار الأقوى والأكثر تأثيراً في الرواية. وعندما تأتي النهاية فيجب أن تكون صادمة وهذا شرط أساسي في الرواية البوليسية وقد كانت صادمة فعلاً موضوع الرواية في ظاهره جريمة قتل يجعلها الكاتب أداة يمتطيها ليخوض في فلسفة قديمة ...حديثة ...مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. تلك العلاقة بين الأنثى والذكر. المرأة والرجل. العلاقة المتلاحقة المتضاربة المتجاذبة المتنافرة. وقد سلط الكاتب الضوء عليها في ثنايا الرواية وعلى ألسنة الشخصيات بشكل حيادي دون أن يرجح كفة أحدهما على الآخر. لكنه بصدق ومهارة يصف الذكر بكل ما فيه من غطرسة وخشونة ورغبة في السيطرة والتملك ويصف الأنثى التي لاهم لها سوى كبح جماح هذا الكائن المتمرد ورمي حبالها حوله لتسيطر عليه. إن القارئ يجد نفسه يسير مع نصين: النص البوليسي والنص الرديف أو الموازي. لكل منهما حبكته وأبطاله ونهايته.. ولكن لا يشعر القارئ بأي نشاز أو تضارب بين الحكايتين فهما تنسابان معاً وتنتهيان في ذات الوقت. فالعبارة التي تقال من أجل الكشف والتمحيص وتجريد الأحداث والشخصيات تنطوي في ذات الوقت على أرق وأعنف إشارات الحب الهيام. والشخوص الذين يدورون في حلقة مغلقة ضمن حبكة الموقف البوليسي هم أنفسهم عشاق وأزواج وأعداء يتربص أحدهم بالآخر. يملك الكاتب طرحاً جريئاً مهذباً في ذات الوقت ... يصف العلاقات الحميمة بين الرجال والنساء ومبررات كل علاقة أو خطيئة ولكننا أمام هذا الوصف لا نفكر سوى بإنسانية هؤلاء الأبطال وحاجتهم الماسة إلى الأمن والحنان والاحتواء والهروب من حيواتهم الماضية الملوثة بالفقر والعنف والظلم. وضع الكاتب فلسفته على لسان الأبطال ...فرودينا الفتاة المغربية فتاة ذات عمق وذكاء ولكنها تعتمد على سلاح الجمال باعتباره طريقها الأسرع إلى الحياة الفارهة وفي دبي بالذات وهي وإن صارت في مرحلة ما مناضلة ومخلصة. ولكنها عادت من حيث بدأت تبحث عن حلم آخر طالما أنها في أرض الأحلام. أما راشد فهو النموذج الذكوري الأفضل في الروائي والذي يتعمد أن يخشوشن مع النساء بحكم تربيته في بلاد قبلية ولكنه لا يلبث أن يتحول إلى الحلقة الأضعف أمام الجمال ومراوغة النساء. س علام يقوم الصراع؟ الصراع القائم لم يكن حول من قتل جهاد فقط. إنه صراع إنساني بين ذوات مقهورة هاربة من النبذ والقهر والضياع. إنه بحث عن الأرواح التائهة في دبي بأسماء مستعارة. وعندما تم القبض على قاتل جهاد كان الكاتب قد قبض على أسباب العداء الشديد من بعض النساء تجاه الرجال (حياتي تزداد روعة كلما أمعنت في تعذيبهم) ص154 كان قد أخذ بأيدينا إلى نقطة الضوء المسلطة على العلاقات المعقدة بين شخوصه: المصالح والعمل / الحب والجنس / الصداقات والمؤازرة. وإن كنت في رأيي المتواضع مازلت أرى الذات البشرية لغز سيبقى قابلا للدراسة والتحليل والفهم. وترني كثيراً كقارئة أن يضعف راشد أمام جمال رودينا ويلقي بسيفه ودرعه اللذين تقلدهما منذ كان طفلاً. وتذكرت عنواناً لمسلسل أو قصة (الحسناء وابن البلد) تشير إلى الفتاة الجميلة الوافدة إلى بلد ومحاولاتها لإغواء أحد أبناء البلد. وتساءلت: هل سيبقى سلاح الجمال هازماً لأعتى الرجال؟ وإلا فلماذا يحيد الضابط عن مسار التحقيق من أجل فتاة فاتنة ولماذا يخون وزير بلاده من أجل راقصة؟ ولماذا يرمي شاب غني أمواله تحت أقدام فتاة تلاعبت بعواطفه. وعدت أسأل نفسي: ولكن ...هل فتحية المصرية جميلة؟ لا طبعاً ولا أحد يراها مطمعاً للرجال ناهيك أن تكون خليلة أحدهم ممن اعتاد أن تكون فرائسه من الجميلات. كيف استطاعت فتحية أن تروض جهاد وتجعله محباً عاشقاً طالباً لرضاها؟ إنه سحر الأنثى ومكمن قوتها وأسلوب حياتها الذي لا زال لغزاً محيراً. يقول الكاتب الشريف : الجريمة بقعة ضوء تعري مسرح الحياة. فرسم بريشة محترف دبي ...ليس مبانيها ولا شوارعها ولا سياراتها ... لقد رسم الأرواح والأماني والأحلام. لون الرغبات والملذات وكذلك الخوف والقلق والسعي المستمر للوصول إلى الأهداف. السؤال هنا: هل النص الرديف بهذا الطرح الإنساني الشائق إضافة للنص البوليسي أم حاد به عن طريقه؟ بالنسبة للعنوان والغلاف واللغة: - استخدم الكاتب لغة صريحة مباشرة بعيدة عن الشاعرية؛ فالموضوع جاد يستحق لغة تخلو من التلاعب اللفظي وزخارف الكلام وتعمد الإيغال في الغرابة، وبرغم ذلك لم تعجز هذه اللغة عن إيفاء المشاعر حقها واستجلاب عواطفنا مع الشخوص وهذا لعمري نجاح يستحق التصفيق. - لم يهمل الكاتب المفردات العامية فهي تضفي على النص صدقاً وواقعية وتزيد الاتصال بالقارئ. - نهاية الرواية تؤكد بشكل غير مباشر وهذا ما وقع في قلبي ولمسته وأرجو المعذرة من الكاتب ...تؤكد أن المرأة كائن غريب أو لغز محير؛ فهي في ذاتها لا تفهم نفسها، والغواية الأنثوية لعبة تحرق صاحبتها قبل أن تؤذي الرجل فبرغم السعي الدؤوب خلفه وملاحقته فهي تتخلى عنه دون مبررات وتتلذذ بقهره لتصفية حسابات قديمة وسمها بها ذكور سابقون. إنها معادلة صعبة ستبقى ما بقي الذكر والأنثى. - العنوان جريمة دبي / وليس جريمة في دبي فهذه المدينة هي التي أجرمت في حق هؤلاء التائهين ...وضعتهم في متاهة ورسمت لهم حياة براقة وهيأت لهم المتعة وراحت تتفرج. - أما الغلاف فهو حكاية ...رجل وامرأة يقتسمان المساحة مناصفة بعدل ومساواة. خلفية الرجل بالزي الخليجي سوداء وكنت أتمنى لو كانت برسم أو معالم توحي بالاستقرار والدفء والأصالة، بينما الجزء الثاني لامرأة جميلة تتلاشى رسوم فستانها مع مباني دبي وتذوب فيها كحال النساء المهاجرات إلى دبي.
مشاركة :