قاض حكيم ملأ الدنيا بأحكامه العادلة وعالم جليل ملأ الدنيا بعلمه ، وفضله ، فقد عرف بقوله الحق، وكلمة الصدق ، وكان له الدور الرائد والمؤثر في الكثير من القضايا، الأمر الذي جعله علامة بارزة في مجال القضاء والفتوى، وقد أولى اهتماماً كبيراً بالقضايا التي تهم المسلمين، وكانت له أحكام في مختلف الموضوعات، ودعا دوماً إلى الإحسان والعدل. إنه إياس بن معاوية بن قرة المزني، أبو واثلة: قاضي البصرة، وأحد أعاجيب الدهر في الفطنة والذكاء. يصف الزركلي في كتابه الأعلام القاضي إياس فيقول: يضرب المثل بذكائه قيل له: ما فيك عيب غير أنك معجب! فقال: أيعجبكم ما أقول ؟ قالوا: نعم، قال: فأنا أحق أن أعجب به. ودخل مدينة واسط فقال لأهلها بعد أيام: يوم قدمت بلدكم عرفت خياركم من شراركم، قالوا: كيف ؟ قال: معنا قوم خيار ألفوا منكم قوماً، وقوم شرار ألفوا قوماً، فعلمت أن خياركم من ألفه خيارنا وكذلك شراركم. وقال الجاحظ: إياس من مفاخر مضر ومن مقدمي القضاة، كان صادق الحدس، نقاباً، عجيب الفراسة، ملهماً وجيهاً عند الخلفاء. وللمدائني كتاب سماه (زكن إياس). ويقول الصفدي في كتاب الوافي بالوفيات: إياس بن معاوية أحد الأعلام. روى عن أبيه وأنس بن مالك وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرهم، روى له مسلم وابن ماجه. وتوفي في واسط سنة إحدى وعشرين ومئة. روى له مسلم شيئاً في مقدمة الكتاب والبخاري تعليقاً. قال عبد الله بن شوذب: كان يقال: يولد كل عام بعد المائة رجل تام العقل. وكانوا يرون إياس بن معاوية منهم. وكان أحد من يضرب به المثل في الذكاء والرأي والسؤدد والعقل، وأول ما ولي القضاء ما قام حتى قضى سبعين قضية وفصلها. بين إياس والقاسم وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قد ولاه القضاء، حيث كتب إلى نائبه بالعراق عدي بن أرطاة أن اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الحرشي، فول قضاء البصرة أنفذهما، فجمع بينهما فقال له إياس: أيها الأمير، سل عني وعن القاسم فقيهي المصر الحسن البصري ومحمد بن سيرين، وكان القاسم يأتيهما وإياس لا يأتيهما، فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به، فقال له: لا تسأل لا عنه ولا عني، فو الله الذي لا إله إلا هو، إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء، فإن كنت كاذباً فما يحل لك أن توليني، وإن كنت صادقاً فينبغي لك أن تقبل قولي. فقال له إياس: إنك جئت برجلٍ أوقفته على شفير جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبةٍ يستغفر الله منها وينجو مما يخاف. فقال عدي بن أرطاة: أما إذ فهمتها فأنت لها، فاستقضاه. وقال إياس: ما غلبني قط سوى رجل واحد، وذاك أني كنت في مجلس القضاء بالبصرة فدخل علي رجل شهد عندي أن البستان الفلاني. وذكر حدوده هو ملك فلان، فقلت له: كم عدد شجره؟ فسكت ثم قال: منذ كم يحكم سيدنا القاضي في هذا المجلس؟ فقلت: منذ كذا. فقال: كم عدد خشب سقفه؟ فقلت له: الحق معك! وأجزت شهادته. القطيفة والشجرة وتحاكم إليه اثنان فقال أحدهما: إني نزلت إلى النهر لأستحم ولي قطيفة خضراء جديدة وضعتها على جانب النهر، وجاء هذا وعليه قطيفة حمراء عتيقة فوضعها ونزل الماء، ولما طلعنا سبقني وأخذ القطيفة الخضراء. فقال: ألكما بينة؟ فقالا: لا. فأمر بمشط فحضر فمشطهما به، فلما فعل ذلك خرج الصوف الأخضر من رأس صاحب القطيفة الخضراء فأمر له بها. ويمتدح ابن خلّكان، القاضي إياس بن معاوية في كتابوفيات الأعيان فيقول: هو السن البليغ والألمعي المصيب، والمعدود مثلاً في الذكاء والفطنة، ورأساً لأهل الفصاحة والرجاحة. كان صادق الظن لطيفاً في الأمور، مشهوراً بفرط الذكاء، وبه يضرب المثل في الذكاء، وإياه عنى الحريري في المقامات بقوله في المقامة السابعة: فإذا ألمعيتي ألمعية ابن عباس، وفراستي فراسة إياس. وحدث المدائني عن أبي محمد القرشي قال: استودع رجل رجلاً مالاً ثم طلبه فجحده، فخاصمه إلى إياس، فقال الطالب: إني دفعت إليه المال، قال: هل من شيء كان في ذلك الموضع؟ قال: شجرة، قال: فانطلق إلى ذلك الموضع وانظر إلى الشجرة فلعل الله تعالى يوضح لك هناك ما يبين به حقك لعلك دفنت مالك عند الشجرة ونسيت فتذكر إذا رأيت الشجرة. فمضى الرجل وقال إياس للمطلوب: اجلس حتى يرجع خصمك، فجلس وإياس يقضي بين الناس وينظر إليه ساعة، ثم قال: يا هذا، أترى صاحبك بلغ موضع الشجرة التي ذكر؟ قال: لا، قال: يا عدو الله، إنك لخائن! قال: أقلني أقالك الله، فأمر من يحتفظ به حتى جاء الرجل فقال له إياس: قد أقر بحقك فخذه منه. نبوغ مبكر وروى المسعودي في شرح المقامات الحريرية: إن الخليفة العباسي المهدي لما دخل البصرة رأى إياس بن معاوية وهو صبي وخلفه وقدامه أربعمائة طيلسان من العلماء وغيرهم، فقال المهدي: أف لهذه العثانين، أما كان فيهم شيخ يتقدمهم غير هذا الحدث؟ ثم قال له المهدي: كم سنك؟ فقال: سني أطال الله بقاء أمير المؤمنين سن أسامة بن زيد بن حارثة لما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. فقال: تقدم، بارك الله فيك! وكان سنة سبع عشرة سنة. وقال إياس في العام الذي مات فيه: رأيت في المنام كأني وأبي على فرسين فجريا معاً فلم أسبقه ولم يسبقني، وعاش أبي ستاً وسبعين سنة وأنا فيها. فلما كان آخر لياليه قال: أتدرون أي ليلة هذه؟ استكملت فيها عمر أبي! ونام فأصبح ميتاً.
مشاركة :