انسحاب روسيا من سوريا تكتيك متعدد الفوائد لموسكو

  • 4/1/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بوجه يخلو من التعابير، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انسحاب قواته المفاجئ من سوريا، أخيراً، مؤكداً نجاح الحملة. ولم يمض النهار حتى كانت المقاتلات الروسية بطواقمها قد غادرت قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية. وانشغلت وسائل الإعلام منذ صدور ذلك الإعلان بتحليل معاني الرحيل المفاجئ وتداعياته العسكرية والسياسية، والأسباب الكامنة خلف مثل هذه الخطوة غير المتوقعة. إلا أن معظم دوائر النقاش أغفلت جوهر المسألة . لم يحدث أي انسحاب روسي من سوريا، بل مجرد خفض مستوى الوجود العسكري الجوي في اللاذقية، حيث لم يقم بوتين إلا بتحريك بعض الأحجار دون أن يغير أسس المعادلة. التأطير السياسي للتدخل تعتبر هذه المناورة أكثر التصاقاً بالتصورات السياسية، لا الحقائق العسكرية، إذ إنها تنطوي على إعادة تأطير سياسي للتدخل الروسي بهدف تطبيع الحضور العسكري لموسكو في سوريا، وجعله دائماً، بالتوازي مع إقناع روسيي الداخل بأن الحملة قد انتهت. وهكذا فإن إعلان بوتين الأخير يشكل مسعى ناجحاً آخر لتحقيق خبطة إعلانية على المستويين المحلي والدولي. قد يكون الإعلان الروسي مفاجئاً بظاهره، إلا أن العديد من الوثائق والمدونات الروسية التي ظهرت قبل أيام من الإعلان، أكدت أن العمل جارٍ على تغيير في مسار الأحداث، تماماً كما حصل. ومن غير المرجح كثيراً أن يكون البيت الأبيض قد فوجئ فعلياً بالإعلان. لكن السؤال يبقى لماذا أتى الإعلان عن الانسحاب في هذا الوقت بالذات؟ يمنح الوجود العسكري المنخفض الفرصة لروسيا لتحديد حجم قواتها الصحيح من خلال سحب العتاد غير الضروري، وإحلال وحدات أخرى أكثر نفعاً محله، وتشذيب الفرق التي عليها إعادتها. ينعكس إعلان النصر وعودة القوات الروسية إلى الوطن فائدة على روسيا لعدد من الأسباب، أولها، ووفقاً لتحليلات جوشوا لانديس وغيره من الخبراء، الفرصة المتاحة لموسكو لممارسة نفوذها على دمشق في محادثات جنيف، حيث يرغب بوتين دون شك في أن يقبل الرئيس السوري بشار الأسد التسوية التي يتم التوصل إليها على طاولة المفاوضات، والتخلي عن طموحاته بإعادة السيطرة على سوريا. الخيارات مقابل الالتزامات إذا خرقت القوات السورية بنود اتفاق وقف إطلاق النار، أو أعاقت سير المفاوضات، فإنها لن تكون على يقين من دعم روسيا لها. ومن شأن هذه الخطوة أن تدفع الأسد للتأكد من حاجته لأخذ المصالح الروسية بعين الاعتبار، ويعتبر هذا الأمر مهماً لروسيا لتحافظ على حيز من المرونة حيال ما سيحدث مستقبلاً في سوريا، وتجنب الوقوع في أي فخ سياسي. ومن الأفضل عموماً في الشرق الأوسط أن تتوافر للأطراف الخارجية الخيارات لا الالتزامات. وتعتبر جماهير الداخل أكثر أهمية للقيادة الروسية من مستقبل سوريا. وقد استثمر بوتين سياسياً في النجاحات العسكرية الروسية، مستبقاً حصول أي تعقيدات. وقد احتفظ بإعلانه النصر والدعوة لإنهاء العملية العسكرية على المكتسبات في عيون الداخل والخارج، بغض النظر عن محصلات عمليتي وقف إطلاق النار ومفاوضات السلام المبدئية. وما من شك أن ذلك قد يرفع رصيد قبوله السياسي في الداخل، بما يشكل أحد الجوانب المعتادة في المسرحيات الروسية. ويستغل القائد الروسي هذا الإعلان وسيلة لإعادة صياغة العمليات العسكرية في سوريا، وإظهارها على شكل حضور عسكري تقليدي وبالتالي تطبيعها في ذهنية الشعب. ولا يدخل ذلك في إطار الحيل، إذ قال بوتين بلغةٍ روسية واضحة: إن الحضور العسكري المتقدم يعتبر بصمة روسيا التقليدية في سوريا، وليس عملية عسكرية. ومن المرجح أن يصاب بخيبة أمل كل من يعتقد أن خفض الوجود الروسي جاء نتيجة اتساع تمددها، لاسيما أن إعلان موسكو مجرد وسيلة لإنهاء أحد فصول التدخل في سوريا، ولا علاقة له بتحديد كيفية إجلائها بل بكيفية بقائها وضمان مصالحها على الأمد الطويل. ويشكل تبديل المرجعية السياسية إحدى الآليات المعتمدة للتأكد من جمع الجماهير المحلية والدولية في صف واحد، وقبول الحضور الروسي في سوريا على أنه الوضع الطبيعي الجديد. خفض لا يتعلق إعلان الانسحاب بكيفية رحيل روسيا من سوريا، بل بكيفية بقائها. ولا يتعين على المشككين بالأمر إلا إعادة متابعة وقائع الفيديو الذي يصور بوتين وهو يصدر الأوامر لوزيري الدفاع والخارجية سيرغي شويغو وسيرغي لافروف، للبدء بسحب القوات من سوريا، حيث أمر بأن تستمر الأعمال في قاعدتي طرطوس وحميميم الروسيتين على النحو المعتاد. أي أن القواعد العسكرية الروسية الأساسية ستستمر في أداء عملياتها في ظل غطاء بحري وقوات مشاة للحماية . بمعنى آخر، إن ما يحصل على أرض الواقع يقتصر على خفض عديد القوات الروسية التي تدفقت إلى سوريا عقب إسقاط طائرة سوخوي روسية من قبل تركيا في نوفمبر 2015.

مشاركة :