ملتقى الشارقة للخط.. علامة فارقة في فضاء الحرف

  • 4/4/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بقي فن الخط العربي ولقرون عديدة أحد أهم التعبيرات الجمالية والفنية لدى العرب والمسلمين، لما يحمله هذا الفن من إرث نفسي وفكري متأصل في رحم الحضارة الإسلامية على امتداد رقعتها الجغرافية وتنوعها الحضاري. ومن هذا الإرث الفني الكبير الذي شكله الخط العربي ومازال يشكله حتى اليوم مع امتداد تأثيراته لتشمل الفن العالمي المعاصر، تنطلق الشارقة في تأكيد رؤيتها الثقافية الداعمة لتأصيل الفنون العربية بكل أشكالها وفرد المساحات اللازمة لتطوير هذه الفنون، حيث يشير حجم الفعاليات والنشاطات التي تنظمها المؤسسات الثقافية في الشارقة سواء كانت رسمية أو أهلية، إلى العناية والمكانة التي بات يحظى بها الخط العربي بوصفه واحداً من الفنون العربية الإسلامية التي شكلت مساراً مغايراً ومتفرداً عما شكلته مدارس الفن الحديثة. يمكن للمتابع أن يلحظ مستوى الاهتمام بفن الخط، من خلال المبادرة النوعية والمتفردة المتمثلة بإنشاء وتخصيص ساحة للخط العربي، ففي قلب الشارقة القديمة تبرز ساحة الخط، التي تقع ضمن ساحة عامة كبيرة هي ساحة الآداب التي افتتحها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة في 12 يونيو/ حزيران 2002، وتضم هذه الساحة مرافق ومراكز تختص بفن الخط العربي من بينها بيت الخطاطين وبيت الخزف ومركز الشارقة لفن الخط العربي والزخرفة، حيث تلبي هذه المراكز حاجة الفنانين والباحثين ومتذوقي الخط. كما تضم الساحة متحف الشارقة لفن الخط العربي، الذي يسعى من خلال مقتنياته التي تصل إلى أكثر من 300 لوحة خطية، وكذلك من خلال برامجه وأنشطته ومكتبته المتخصصة في الخط وقاعته التعليمية، إلى الإضاءة على مشاهير الخطاطين من خلال اللوحات المعروضة والتي يعود بعضها إلى مئات السنين وتمثل إرثاً بصرياً وجمالياً يساعد الباحثين على التوثيق لفن الخط، ومنها ثلاث لوحات كوفية تعود إلى القرن الثالث الهجري تحكي تاريخ ومراحل تطور الفن الكوفي، وتتناول الفتوحات الإسلامية ودخول العديد من الأعاجم وغير العرب إلى الإسلام، ويهدف المتحف أيضاً إلى التعريف بالخامات المستخدمة في الخط مثل ورق البردي والنحاس والقماش والحجر والأحبار. هذا الاحتفاء بفن الخط، لم يقتصر على تأمين البنية التحتية والمستلزمات المادية فقط، إنما كان احتفاء عمليا على مدار العام، حيث تقام المسابقات والفعاليات التي يشهدها ويشارك فيها خطاطون لهم أسماؤهم الكبيرة في هذا الميدان، إضافة إلى البعد التعليمي بإقامة الورش والملتقيات والندوات، وإصدار الكتب والدوريات حول هذا الفن، والاستضافة الدائمة لخطاطين عالميين. وتوج هذا الجهد بانطلاق ملتقى الشارقة للخط العربي، الذي أصبح منصة مهمة يسعى الخطاطون على اختلاف مشاربهم ومرجعياتهم للمشاركة فيه وحضور دوراته، التي تتسع للأعمال المحلية والعالمية، ويستقطب أعمالاً متنوعة بين أصيلة وحداثية، في سعي حثيث للارتقاء بفن الخط العربي، وإعلاء شأنه وتكريم الراسخين من الخطاطين والمشتغلين بهذا الفن الإنساني. شكل ملتقى الشارقة للخط العربي نقلة نوعية على كل المستويات، حيث أصبح الكثير من الخطاطين ينظرون إلى الشارقة والإمارات بوصفها حاضنة للخطاطين، خصوصاً مع تكرار مشاركاتهم في المتلقيات المقامة في الدولة، وتتبعهم لحركة الاقتناء والمعارض والمعاهد التي تنمو باطراد، واستطاعت من خلال رؤية واضحة أن تشكل علامة فارقة في الاهتمام بالفنون الإسلامية بصورة عامة والخط العربي بشكل خاص، وهذا يظهر من خلال جودة الفعاليات المتضمنة في الملتقى، ومستوى الأسماء التي يتستقطبها، كما أن حركة الاهتمام بالخط العربي أعادت الكثير من الفنون المتعلقة بهذا الفن إلى الساحة الإبداعية، وفي الوقت نفسه أعادت الاعتبار إلى الكثير من الخطوط التي غابت واختفى ذكرها. كما كانت أعمال الملتقى مناسبة حقيقية لتلاقي الثقافات، والتعريف بالفنون الإسلامية وإرثها الحضاري، من خلال تجارب خطية من عدة دول وشعوب وهويات حضارية متنوعة، وهو ما يبسط ساحة الفن لمزيد من الفهم والتواصل الإنساني الخلاق الذي يعبر عن قيم جمالية وبصرية، وهو المنظور الذي تجسد فعلاً وممارسة في أعمال فنانين ينتمون لثقافات عربية وإسلامية وأيضاً عالمية. يثير الملتقى الكثير من الأبعاد الجمالية للخط من ناحيتي المضمون والشكل، فهذا الفن الذي ارتبط بمنطق خاص يستمد تألقه من الأبعاد الروحية التي يلخصها الفهم الإسلامي للجمال بات اليوم على تماس مع الكثير من القيم العصرية التي تفتح الباب على مصراعيه أمام استخدامات الخط في اللوحة الحروفية ومن ثم اللوحة التشكيلية الحديثة، يضاف إلى ذلك استخدام الخط في المنحوتات والأعمال المعاصرة التي أمست توظف الخط بوصفه ثيمة مكملة للعناصر المختلفة. تحضر في الملتقى أعمال الخط الكلاسيكية، حيث تعبر هذه الأعمال عن مكانة الخط العربي وتتأكد من خلال هذه التجارب وجديتها، الوجهة الحقيقية للمهتمين بالجماليات العربية، ففي الخط العربي الأصيل تختزل ملامح متعددة من الهوية البصرية والإسلامية. ويأتي مثل هذا النوع من الأعمال من أجل تنمية الذوق الفني والإدراك البصري لفن الخط العربي والزخرفة. ومن ناحية أخرى، شكلت دورات الملتقى المتتابعة تحولاً في مفهوم تلقي الخط يتجاوز المنظور الكلاسيكي المرتكز على قاعدة البناء والتأليف، ذهاباً إلى التيار المعاصر وعالم التشكيل والصورة ببعديها الثنائي أو الثلاثي، التي تجسدت في أعمال إبداعية ولوحات ومنحوتات وزخارف ونظم فنية وتركيبات بنكهة فنية معاصرة تستخدم وسائط فنية مختلفة، تشكل في مجموعها بانوراما إبداعية بصرية. لقد شكلت هذه الرؤى الجديدة والمعاصرة أحد عناصر نجاح الملتقى، من خلال تجسيدها لثقافات تشكيلية وبصرية مغايرة، واستيعابها النصوص والرموز والثيمات، كما برزت كذلك في المواد والخامات المستخدمة، وعبرت عن حساسيات عالية لتقف على مشارف الزمن الحالي الذي تمور فيه أحداث وهموم اجتماعية وسياسية غير مستقرة. وبدت الاستخدامات الحديثة في أعمال نحتية وعلى نظام الفيديو، كما هو في تركيبات نثر الحروف على وسائط متعددة، وبألوان وكولاجات، قدمت استشرافاً لمجموعة من القيم والمقولات الموجودة في الحضارتين الشرقية والغربية. كما برزت تطبيقات أسلوبية تدمج الخط مع الصورة لترجمة الأفكار والموضوعات الإنسانية الحيوية، وما إلى ذلك من استلهام النصوص الشعرية العربية والعالمية، لما للكلمة المقروءة شعراً من بعد دلالي، والتماهي مع تجربة التشكيل بمسحة درامية بمكوناتها اللونية وعناصرها المختلفة من مواد ووسائط وغيرها، إضافة للتركيبات النحتية وتحفيز المشاهد بمزيد من الأفكار التي تشي بالغموض تارة والوضوح تارة أخرى، من أجل قراءات جديدة يستشفها المتلقي. إن عناية الشارقة بالخط العربي، لا تأتي في سياق منفصل عن عنايتها بسائر الفنون، والآداب، والمعارف العربية، وهو ما يطل بصورة دقيقة على مستقبل الحركة الثقافية في الدولة، ويكشف في الوقت ذاته الذهنية المتحضرة والواعية التي ستنشأ عليها الأجيال في الإمارات.

مشاركة :