يتميز الشاعر حسن طلب بخصوصية، ربما اختلفت عن الأجيال الشعرية على تنوعها، فهو أحد شعراء السبعينات، وعاشق للشعر والفلسفة حد التمرد، مغامر وباحث عن الجديد، امتلك فضول المعرفة منذ البدايات، وخاض العديد من المعارك مع بعض رموز الحركة الأدبية، الشعر سيده الأول والفلسفة علمه الأثير إلى قلبه وعقله. عاش حسن طلب مرحلة طفولة ثرية بإحدى قرى صعيد مصر، أسهمت إلى حد كبير في تشكيل وعيه الشعري والثقافي، وعلى الرغم من قسوة تلك المرحلة وبيئتها الثقافية المحدودة، من حيث المكان والثقافة فإنه يعتز بها لأنها كونت اللبنات الأولى في طريق طويل، حيث يقول: ما زلت أتذكر هذه البدايات وأدين لها بما صرت إليه الآن، فالبيئة محدودة وفقيرة، في قرية بمحافظة سوهاج بجوار مدينة طهطا بلد رفاعة الطهطاوي. في هذه القرية رقعة زراعية محدودة ومصادر ثروة وثقافة أكثر محدودية، لا توجد قصور ثقافة أو قوافل أو مكتبات عامة وأشياء من هذا القبيل خلال فترة الخمسينات، إنما كان الناس يستقون ثقافتهم من الأزهريين، ومن حسن حظي أن والدي كان واحداً منهم. يتذكر طلب الدور الكبير لذلك الوالد الأزهري في حياته ويقول: درس في فرع الأزهر بمدينة أسيوط، كان يمتلك مكتبة كبيرة تلصصت على كتبها وقرأت منها الكثير، حيث ضمت كتباً في الدين والتراث والشعر واللغة، تلك هي البداية الأولى التي ما زلت أدين لها لأنها هي التي جذبتني إلى اللغة والشعر، كان والدي قارئاً نهماً، يشجعني، متباهياً بي أمام الناس ويطلب أن أقرأ أمامهم شعري الذي كنت أكتبه خلال دراستي. بالإضافة إلى الكتب الدينية يشير د. طلب إلى امتلاك والده بعض الكتب غير الأزهرية مثل السير الشعبية ومنها سيرة الملك سيف ذي اليزن وعنترة بن شداد، فيجتمع أهل القرية حوله في ليالي الشتاء وهو يقرأ لهم هذه السير، فيندس طلب بينهم لكي يستمع للأشعار، خاصة أن سيرة عنترة تمتلئ بأحداث وغزوات وحروب وشعر عن عبلة، ومن ثم ينتظر هذه اللحظة الشعرية بشغف شديد. يقول: هذا هو الأساس الذي انطلقت منه حتى حين ذهبت إلى مدرسة رفاعة الطهطاوي الثانوية رزقني الله بمعلم لغة عربية، عندما كان المعلمون أصحاب رسالة، لاحظ شغفي بالشعر فتبناني، وكان يصطحبني للمكتبة، ويرشدني لاستعارة الدواوين القديمة، وعندما تُعقد مسابقات ثقافية في المدارس يدفعني لتمثيل المدرسة فيها، ومن هذه البيئة المحدودة ثقافياً استطعت أن أكتسب ثقافة جذبتني إلى التراث، وظلت تجذبني إليه طوال الوقت، لأنني أريد استكمال ما بدأته خلال صباي والبحث عما يسد الفراغات في التراث طوال الوقت. شهدت المرحلتان الإعدادية والثانوية بداية كتابة طلب الشعر العمودي الذي كان يسمعه في المدارس، حيث يقول عن هذه الكتابة: كان من الطبيعي أن أكتب قصائد عمودية في مدح النبي أو المناسبات، لم أكتب الشعر الحر إلا عندما انتهيت من الثانوية العامة، حينما غادرت الصعيد، وجئت إلى القاهرة للدراسة بكلية الآداب في بداية الستينات. في هذا الوقت يعترف بتلقيه صدمة الجديد، صدمة توسيع الأفق، ويعترف: كان لديّ أفق منغلق متعصب للشعر العمودي ومتشبث به، رافض لأي شيء خارج عن التقاليد الأدبية، وأضاع سنة من عمره لكي يدرس بالقسم الذي يريده وهو الفلسفة حيث التحق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب فاكتشف أنه يعرف كل الشعر الذي يُقال سواء كان جاهلياً أو غيره، وهنا يقول: عندما يجد الإنسان نفسه يستمع لشيء يعلمه يفقد حماسه إلى الاستمرار، ففكرت في الالتحاق بقسم آخر، ذهبت إلى قسم الاجتماع ثم الفلسفة الذي وجدت فيه ضالتي بعد شهور، لكن كان موعد التحويل من قسم لآخر انتهى، فانتظرت للعام التالي حتى ألتحق به، درس لي كبار الأساتذة ومنهم زكي نجيب محمود وعثمان أمين وتوفيق الطويل وكبار رجال الفلسفة الذين انهارت بعدهم. يشيد د. طلب بدراسته للفلسفة ويقول: وجدت فيها ما أريده، لأنه كان ينقصني أن أتدرب على العمق الذي تتيحه الفلسفة، فالفلسفة هي علم الوعي، الذي يجعل الإنسان لا يقبل شيئاً على أنه صحيح إلا إذا كان واضحاً أمام العقل، ومقتنعاً بما هو منطقي، لذلك ضحيت بهذه السنة ولم أخسر كثيرا لأنني ذهبت إلى ما أريد. جعلتني الفلسفة مرناً وقادراً على تقبل ما هو جديد، خاصة أنني تعلمت على يد كبار الأساتذة، لم يكن في ذهني أن أكون أستاذا للفلسفة، بل شغلني أكثر الشعر في واقع الأمر، لكنني أحب الفلسفة لذاتها وتوسيع مداركي وأفقي الثقافي، وكل ذلك سيصب في صالح الشعر بالطبع. يتذكر بداية ارتباطه بعالم الأدب ويقول: كنت أتردد على دار الأدباء في قصر العيني، ومقهى ريش، لأرى الأدباء، كما حرصت على التنقل في القاهرة ومنتدياتها الثقافية والاتصال بالحياة الأدبية مستمعاً، ولدي فضول المعرفة فصدمتني قصيدة الشعر الحر الذي يختلف عما أكتبه، فبدأت أستجيب لها ومن ثم كتبته عام 1966 وأنا طالب بالجامعة، شعرت بميل لتغيير ثوبي القديم، فكتبت ديواني الأول، وتنازلت عن كل القصائد العمودية التي كتبتها سابقاً عندما صدر الديوان عام 1972، إذ نشرت فقط قصائدي التي كتبتها في القاهرة. يقول: جندت 6 سنوات من 1968إلى 1974 على جبهة وبعد التجنيد بدأت من الصفر بدراسة سنة تمهيدية ثم الماجستير والدكتوراه، وكنت قد خرجت من الحرب موظفاً بجامعة القاهرة كمشرف على النشاط الثقافي، وعلى أن أجمع بين اهتمامي بالشعر والوظيفة والدراسة للدكتوراه، لكنني لم أنس أن الشعر هو السيد الأول قد أكون خادم سيدين الشعر والفلسفة لكن أولهما هو الشعر بالطبع، وهذا جعلني أتأخر في الإعداد للماجستير والدكتوراه. يمثل العمل الأول علامة فارقة في حياة المبدع وهنا يستعيد د. طلب أجواء إصدار ديوانه الأول، مشيراً إلى أنه خلال وجوده في فترة التجنيد عام 1971 وجد لديه قصائد تكفي لكي تصدر في مجموعة شعرية ومن ثم فكر في الأمر بجدية، لكن لم يكن هناك ناشر يتحمس لشاعر مغمور مثله، جندي على الجبهة، ويقول: انتهزت أول خلاف نشب بيني وبين خطيبتي لننهي الخطبة فأخذت الشبكة وقمت ببيعها بمئتي جنيه، وكانت مبلغاً كبيراً بالطبع آنذاك ونشرت الديوان. بعد توفر المال لصدور الديوان تبقى الناقد الذي سيقدمه للحياة الأدبية ففكرت في رجاء النقاش رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون ذائعة الصيت في ذلك الوقت، حيث كان يكتب مقالات عن الشعر، وقد جذبه أسلوبه واهتمامه بالشعر، وفي إحدى إجازاته من الجيش جمع قصائده واتجه إلى مكتب النقاش وأعطاه قصائده فدعاه النقاش للجلوس وأخذ يقرأ شعره نصف ساعة متصلة وهو مستغرق بينما كان طلب جالساً كمن ينتظر نتيجة امتحان. إلا أن النقاش تحمس للقصائد وكتب المقدمة. ويستدرك: عندما كبرت في العمر وأصدرت دواوين لاحقة شعرت بأنني تسرعت في نشره وأنه لا يمثلني تماما، لأن به صدى الآخرين من صلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي وغيرهما، لم أكن قد اكتسبت شخصية أدبية إلا في مقاطع بسيطة من هذا الديوان، لذا شعرت بعد سنوات بأنه كان يترتب على أن أنتظر، وعندما خرجت من الجيش عام 1974 كان لدي مشروعان: أولهما استكمال الدراسات العليا، والثاني متابعة الحركة الأدبية ورؤية شباب الشعراء الجدد حيث تعرفت إلى مجموعة كبيرة منهم: حلمي سالم وجمال القصاص وأمجد ريان وعلي قنديل. انضم الفنان عادل السيوي لهذه المجموعة وجدانيا حيث ارتبط بصداقة مع الراحل حلمي سالم فاشترك معنا في قيمنا السياسية، حيث شهدت السبعينات بداية تشجيع السادات لتغول الجماعات الإسلامية و يغلق المجلات الثقافية منها مجلة الفكر المعاصر والمسرح والمجلة، لينشئ مجلتين محافظتين تكرسان للثقافة الرجعية المؤيدة له، واحدة باسم الجديد وترأس تحريرها رشاد رشدي الذي عُرف بمواقفه ضد اليساريين، ومجلة الثقافة ومن ثم لن تقبل هاتان المجلتان بنا كمتمردين، من هنا فكرنا في منبر مستقل، وقبل وفاة الشاعر علي قنديل، قررنا إصدار مجلة إضاءة واستغرق تنفيذها أكثر من عامين حيث صدر العدد الأول عام 1977، جمعنا تبرعات من النقاد والمبدعين منهم عبدالمنعم تليمة، وأطلقنا عليها إضاءة 1977، وقد عبرت المجلة عن توجهنا بعيداً عن المؤسسات الرسمية. وتوقفت إضاءة في أواخر الثمانينات حيث يقول طلب: اختلف رفعت سلام معنا وأراد تحويل المجلة إلى منشورات سياسية لكنني رفضت فخرج من الجماعة ثم سافرت أنا للعمل بمجلة الدوحة في قطر، وسافر حلمي سالم إلى بيروت ولم يتبق سوى جمال القصاص وأمجد ريان الذي سافر لاحقاً. في نهاية الثمانينات عدت من الدوحة ووجدت حلمي سالم يفكر في إعادة إصدار المجلة لكنني رفضت، حيث شعرت بأن المجلة أدت دورها وهو البحث عما هو مشترك أو ما يجمعنا، لكن لا بد أن تأتي فترة للبحث عما ما يميزنا، وإلا ستتحول إلى جمعية تعاونية يؤيد فيها كل عضو الآخر لمجرد أنه صديقه وهذا ما لم أكن أريده. وبالفعل أصدرت الجماعة عددين، وتوقفت المجلة.
مشاركة :