"ارتأيت في دجنبر 1952، أن أسافر إلى الرباط لبحث سبل الاتصال بجريدة "العلم" وتأمين وصول مراسلاتي التي تغطي ما يقع في الجنوب من أحداث، وقد تصادف هذا مع حدث اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، ففوجئت باضطراب الأجواء". بهذه القصة المجتزأة من مذكراته، يكون الفقيد بنسعيد آيت ايدر، الذي أسلم روحه لبارئها صباح اليوم عن ناهز 99 سنة، داخل المستشفى العسكري بالرباط، بعد صراع مع المرض، (يكون) قد تكلم عن قرن من تاريخ المغرب، السياسي والاجتماعي والاقتصادي، تاركا بذلك شهادات على 100 سنة من تاريخ البلاد، "شاهدا" وفاعلا ومؤثرا في أغلب الأحداث البارزة التي حدثت، فقد كان مقاوما، معتقلا، معارضا، مؤسسا ومنتخبا، قبل أن يوشح جلالة الملك صدره بوسام ملكي. ثم يركن إلى مذكراته التي ختم بها مساره الحافل، قبل أن يرحل رحمه الله عن دنيانا صبيحة اليوم. المنشأ ولد محمد بن سعيد آيت إيدر يوم 1 يوليوز 1925، في قرية تينمنصور بمنطقة أشتوكة آيت باها. تلقى تعليمه في "مدرسة علال العتيقة"، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم انتقل إلى مدينة مراكش، حيث تابع دراسته في مدرسة ابن يوسف، المؤسسة الشهيرة التي تخرجت منها أفواج من النخبة الوطنية وقادة جيش التحرير. قاد آيت إيدر خلال مرحلة المقاومة، عددا من الخلايا التي خاضت الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، وتولى المسؤولية السياسية عن جيش التحرير المغربي في الجنوب، وشغل عضوية المجلس الوطني للمقاومة. وبعد سنوات من المنفى في عهد الاستقلال، أسس منظمة العمل الديموقراطي الشعبي، وانتخب أمينا عاما لها، وأصبح نائبا برلمانيا باسمها. وفي إطار اندماج عدد من الأحزاب والحركات اليسارية، تولى المهمة الشرفية رئيسا لليسار الاشتراكي الموحد سنة 2002. العمل المسلح نشأ الراحل آيت إيدر في منطقة معزولة عن التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي عرفها المغرب في عهد الحماية، ولم يكتشفها إلا بعد انتقاله إلى مراكش للتعلم في مدرسة ابن يوسف، حيث فتح عينيه على العمل الوطني، والتقى بقيادات سياسية كعبد الله إبراهيم المهدي بنبركة، واصطدم مبكرا رفقة زملائه بوالي مراكش الشهير الباشا التهامي الكلاوي، رجل فرنسا الحديدي. انخرط بقوة في العمل المسلح، بمشاركته في قيادة فرق جيش التحرير المغربي، وتكوين خلايا المقاومة. وفي هذا السياق، تولى في بداية الخمسينيات، منصب المسؤول السياسي لقيادة جيش التحرير في الجنوب. وأرخ لهذه المرحلة من حياته في كتاب صدر عام 2001، بعنوان "صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي". ومع السنوات الأولى للاستقلال، بدأت الهوة تتسع بين عدد من المناضلين اليساريين وقياديي جيش التحرير من جهة والنظام الحاكم من جهة أخرى، وخصوصا ولي العهد آنذاك الحسن الثاني، الذي تولى العرش بعد وفاة الملك الراحل محمد الخامس عام 1961.. تعرض بن سعيد للاعتقال عام 1960، ثم 1963 وغادر إلى المنفى بالجزائر، حيث صدر عليه حكم غيابي بالإعدام عام 1964. ومن الجزائر حيث اتهم بالمشاركة في مخططات تخريبية لزعزعة النظام، انتقل إلى فرنسا حيث دخل تجربة سياسية جديدة، من خلال الانخراط في منظمة حملت اسم "23 مارس" ذات التوجه الماركسي اللينيني. الوطن غفور رحيم عاد للمغرب عام 1981، ودشن تجربة جديدة من العمل السياسي في إطار المؤسسات، من خلال حزب "منظمة العمل الديمقراطي الشعبي" التي انتخب أمينا عاما لها عام 1983. وباسم المنظمة دخل البرلمان، وكان وجها بارزا عرف بإثارته لقضايا حساسة، فقد كان أول سياسي يطرح ملف معتقل تازمامارت السري بالمغرب. ولم يمنع التوجه الأيديولوجي للمنظمة، من المساهمة إلى جانب أحزاب وطنية أخرى، في تأسيس الكتلة الديمقراطية عام 1992، وهو التحالف الذي كان له دور ضاغط على الإصلاحات في أواخر عهد الملك الراحل الحسن الثاني. واجه لاحقا تحدي الانشقاق الذي تعرض له حزبه عام 1996، بانسحاب مجموعة من القيادات التي التأمت في حزب جديد، لكنه عاد من جديد لتوسيع عائلة اليسار، بالاندماج مع أحزاب وحركات أخرى في حزب اليسار الاشتراكي الموحد عام 2002. الوسام الملكي وشح جلالة الملك محمد السادس صدره بوسام ملكي سنة 2015، من درجة الحمالة الكبرى، وهو رابع وسام ملكي مغربي ضمن قائمة الأوسمة الملكية المغربية، يُمنح لمكافأة الأشخاص الذين قدموا خدمات متميزة ذات طبيعة مدنية أو عسكرية. ظهر الوسام لأول مرة في 16 مايو 1963. لخص تجربته البرلمانية بجملة أوردها في مذكراته بالقول " اكتشفت أن الممارسة البرلمانية لم تتطور إلى ما هو أفضل، بل حصل فيها تراجع كبير منذ أن انتقلت المعارضة التقدمية إلى الحكم… التحاقها بالسلطة إثر مرحلة ما سمي “التناوب التوافقي” ترك فراغا كبيراً". سنة 2018 سيصدر الفقيد مذكراته من جزءين وبعدد صفحات بلغ 428 صفحة، بعنوان مثير "هكذا تكلم أيت ايدر" وهو العنوان الذي يذكرنا بكتاب نيتشه "هكذا تكلم زراديشت"، أعدها وأخرجها عبد الرحمن زكري، استهلها بالحديث عن منشأه وطفولته ويتمه والدور الذي قامت به زوجة والده في تربيته وتغيير نمط عيش الأسرة. هكذا تكلم الراحل.. نقرأ للراحل في مستهل مذكراته" ولدت عام 1925 بقرية تين منصور باشتوكة آيت باها، وسط عائلة متوسطة تمتهن الفلاحة والتجارة، وتتمتع بنفوذ كبير بالمنطقة. حرمت من حنان الأم وأنا في سن الطفولة، فقد توفيت والدتي وعمري لم يتجاوز السادسة. وهكذا، نشأت يتيما بالرغم من أن والدي تزوج بعدها بوقت قصير. ما تحتفظ به ذاكرتي عن هذه المرحلة هو أن زوجة والدي الجديدة، أدخلت إلى بيتنا المشبع بتقاليد بيئة الفلاحين نمط حياة مختلف، وعوائد أخرى لا عهد لنا بها نظرا لأنها كانت سيدة حضرية تنحدر من المدينة. فبلمسة واحدة من زوجة والدي هذه تبدلت كثير من عاداتنا البيتية في الأكل والتربية والسلوك". أما عن دراسته فكتب شيخ اليساريين بالمغرب "كنت، وأنا أكبر الأبناء، قد حفظت ستين حزبا بأكثر من قراءة. لم يكن عمري يتجاوز الرابعة حين التحقت بالمسيد (الكتّاب) الكائن بقريتنا. وقد تضايقت من الفراغ الذي بدأت أشعر به فور انتهائي من مهمة حفظ القرآن كاملا وتعلم الكتابة بالحروف العربية. وبضغط من هذا الفراغ، وافقني الوالد على الانتقال إلى مدرسة تدرس العلوم العربية. تمكنت من مغادرة القرية في بداية الأربعينات متوجها إلى مدرسة قريبة شيئا ما. قضيت فيها حوالي سنتين… ثم انتقلت إلى مدرسة أخرى تبعد كثيرا عن اشتوكة وتقرب من حدود منطقة آيت باعمران… كان الوصول إليها يتطلب مني ركوب سيارة نقل من تينمنصور حتى تزنيت، ثم أقطع المسافة الباقية راجلا… وجدت الدراسة تؤدى بشكل تقليدي، والدروس تترجم كلها إلى اللغة الأمازيغية، وكنت أجد صعوبات في إتقان النطق باللغة العربية، إلى أن انتقلت إلى مراكش لمتابعة دراستي في مدرسة بن يوسف".
مشاركة :