«مقابسات» التوحيدي.. عصر كامل من الثقافة

  • 4/4/2016
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

قد يختلف المؤرخون في عام ميلاد أبو حيان التوحيدي وعام وفاته، لكنه من أعلام القرن الرابع الهجري، وقد يختلفون كذلك في نسبته إلى التوحيد، هل سببها أن أباه كان يبيع نوعاً من التمر اسمه التوحيد أم نسبته إلى التوحيد لأنه من المعتزلة الذين كانوا يلقبون أنفسهم بأهل العدل والتوحيد؟ ما نعرفه عن علي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي أنه اشتهر بكنيته أبو حيان، كما أنه عرف بأنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ولقب كذلك بشيخ الصوفية، فهو مثقف موسوعي بدأ حياته وراقاً ينسخ الكتب ويبيعها، وانتهى به الأمر فاقداً الأمل في تثقيف الناس، حارقاً كل كتبه، التي ألفها، ووصلنا منها فقط ما نقل قبل إحراقها. يحكي المحقق حسن السندوبي في صدر كتاب المقابسات الذي أصدرت دار آفاق للنشر والتوزيع طبعة جديدة منه، قصة عثوره على الكتاب، ففي عصر يوم من أيام سنة 1913 كان لدى أحد باعة الكتب الذي بادره قائلا: هذا الكتاب لأبي حيان التوحيدي من مطبوعات الهند، فخذه إليك واحرص على قراءته وتفهم أغراضه ومعانيه، فإنه درة ثمينة وجوهرة نادرة المثال وأعاد السندوبي نشر الكتاب محققاً بعد إصلاح الأخطاء الكثيرة فيه سنة 1916. لم يكن أبو حيان محظوظاً بل كان على كثرة ما صحب من ذوي السلطان وأصحاب النفوذ في الدولة، بائساً فقيراً، رقيق الحال مشرد الفكر، لا يكاد يستقر في مكان إلا ويزعجه أمر إلى ارتياد سواه، وكان صديقاً للوزيرين أبي الفضل بن العميد والصاحب بن عباد، فكتب فيهما كتاباً، يتحسس سوءاتهما، ويتتبع عوراتهما، وكان ذلك سبباً في نفور الناس منه، وتباعدهم عنه، لأن الصاحب بن عباد كان واسع السلطان، يمنح العطايا للأدباء، فسلط على التوحيدي من يسيئون إليه، حتى جعلوه طريداً شريداً لا يؤويه مكان، وكان قد أوذي من الصاحب بن عباد كثيراً وليس له من سلاح يرد به، غير الرجوع إلى القلم، ومع ذلك كاد أن يمحى اسمه من الوجود، فقد حرض عليه بعض رجال الدين، الذين رموه في عقيدته، رغم أن ابن النجار قال فيه إنه كان فقيراً صابراً متديناً وكان صحيح العقيدة. ترك أبو حيان التوحيدي عدة كتب التزم في بسطها وإيضاحها طريقة التناظر والتحاور وأسلوب المحاضرة والمسامرة، فجاءت سهلة، بعيدة عن التكلف، بريئة من الغموض ومنها البصائر والذخائر- الإمتاع والمؤانسة - المقابسات - الإشارات الإلهية - الرسالة البغدادية وغير ذلك من كتب وصل القليل منها بعد أن أحرق أكثرها. يجمع هذا الكتاب مؤونة عصر كامل من الثقافة في شتى الموضوعات: تطهير النفس باجتناب شهوات الجسد وعلم النجوم والفلك والنحو والفقه والأخلاق والناموس الإلهي والزمان والمكان والألفاظ والمعاني وكتمان السر والحياة والموت وغيرها من موضوعات، فالمقابسات هي الجذوة المشتعلة الناتجة عن النقاشات، التي كانت تزخر بها المجالس الثقافية الثرية بالعلماء والكتاب والأدباء والشعراء، الحريصين على المشاركة بآرائهم في كل علم، وقد قضى التوحيدي سنوات طويلة من عمره، ليجمع مواد الكتاب، ليجعلنا وكأننا نشاهد شريطاً مسجلاً لجلسات مثقفي زمانه، التي شهدها وشارك فيها.

مشاركة :