يحتوي هذا الكتاب "موجز تاريخ الدبلوماسية الصينية القديمة" لمؤلفه البروفيسور والدبلوماسي الصيني يوان نان شنغ. على أربعة عشر فصلًا وخاتمة، تتبع فيها المؤلف تاريخ الدبلوماسية الصينية القديمة منذ نشأة ما عُرف بالعلاقات الخارجية قديمًا في عصر أسرة شيا الصينية حوالي القرن الـ 21 ق.م، ثم خصائص الدبلوماسية في العصور اللاحقة مرورًا بفترة الربيع والخريف والدويلات المتحاربة، ثم تناول الفكر الدبلوماسي عند أقطاب الفكر والفلسفة الصينية القديمة مثل كونفوشيوس ومنشيوس ولاوتزه وصاحب كتاب "فن الحرب" سون تزه وغيرهم من كبار المفكرين والفلاسفة الصينين المعروفين. ويناقش الكتاب الذي ترجمه د.حسانين فهمي حسين الأستاذ بكلية الألسن جامعة عين شمس، وصدر مؤخرًا عن دار صفصافة للنشر ضمن إصدارات سلسلة "قراءات صينية"، التطورات التي طرأت على علاقات الإمبراطورية الصينية الخارجية في عصر أسرتي خان الشرقية والغربية التي شهدت تأسيس الدولة الصينية الموحدة، والرحلات الخارجية التي قام بها الرحالة الصيني المعروف جانغ تشيان إلى المناطق الغربية الواقعة خارج حدود الإمبراطورية الصينية آنذاك. كما اهتم يوان نان شنغ بتناول ما وصلت إليه الدبلوماسية الصينية القديمة من تطور وازدهار ملحوظ خلال عصر أسرتي تانغ (618-907) وسونغ (960-1279)، تلك الفترة التي شهدت توسع كبير في علاقات الصين مع الدول والممالك الخارجية ومن بينها دولة الخلافة الإسلامية ودول آسيا الوسطى والدول الإفريقية، وهي الفترة التي شهدت دخول الإسلام إلى الصين ووصول السفارات الإسلامية أو العربية إلى الصين. وفي هذا يقول "عندما كانت أسرة تانغ في أوج إزدهارها، تمكنت من تحقيق إنجازات كبيرة في مجالات الثقافة والسياسة والاقتصاد والدبلوماسية وغيرها من المجالات، ومثلت أحد أهم فترات الازدهار على مدار التاريخ الصيني، وأحد أقوى الإمبراطوريات الكبرى على مستوى العالم آنذاك. حتى أن الدول والممالك المجاورة آنذاك مثل كوريو، بايتشي، شيلا، وي قوه وغيرها من الدول المجاورة تأثرت بالأنظمة الثقافية والسياسية لأسرة تانغ. وخلال النصف الأول من عصر تانغ، كان النشاط الاقتصادي والثقافي في البلاد في صعود وتقدم مستمر، وكانت فترة هامة من فترات تصدير الثقافة والتكنولوجيا الصينية للدول المجاورة، كما وفر المناخ الاجتماعي الذي يسوده التكامل والاندماج البيئة المناسبة للعرقيات المختلفة منذ الممالك الخمس والدول الستة عشر، كما شهدت تلك الفترة الاستفادة الكبيرة من الحضارات والثقافات الأجنبية. وخلال النصف الثاني من عصر تانغ، شهدت البلاد فترة تحول تاريخية، حيث أشارت التغيرات التي شهدها نظام الأراضي والملح والحديد والضرائب في البلاد إلى تغيرات بطيئة في المجتمع، وكان لنمو القوى الانفصالية وتكون الممالك المجاورة تأثيره العميق على التاريخ الصيني. ويشير إلى أن أول مبعوث لدولة الخلافة الإسلامية إلى تشانغآن كان في أغسطس/حزيران 651 م. ومنذ ذلك الحين، لم تنقطع رسل الدولة الإسلامية إلى تشانغآن. وبعد وصول أول مبعوث عربي إلى البلاد عام 651 م، حتى وصول آخر مبعوث لتشانغآن عام 798 م، بلغ عدد بعثات دولة الخلافة الإسلامية التي وصلت إلى تشانغآن على مدار 148 عاماً 39 (مرة) بعثة. من بينهم من كانوا أصدقاء حميمين يتوافدون على البلاد مرات ومرات، ومن يزور تشانغآن مرتين أو ثلاث سنوياً، بيد أن أسرة تانغ لم ترسل أي رسل من جانبها للرد على زيارات مبعوثي دولة الخلافة الإسلامية. وفي الشهر الثاني عشر من العام الحادي عشر من تيانباو عصر الإمبراطور تانغ شيوان زونغ(752)، أرسل أمراء الدولة العباسية مبعوثاً إلى تانغ، وكانت تلك هي المرة الأولى التي ترسل فيها الدولة العباسية التي حلت محل الدولة الأموية مبعوثا إلى الصين لتأسيس علاقات دبلوماسية بين الطرفين، فمنحته أسرة تانغ لقب القائد تكريما له. وفيما بعد وفي شهور مارس وأبريل ويوليو وديسمبر من العام التالي 752، ظهر مبعوثو الدولة العباسية في الصين أكثر من أربع مرات خلال عام واحد فقط. وعلى مدار الأعوام الخمس التالية، لم تنقطع رسل الدولة العباسية إلى بكين. وأشارت السجلات الرسمية لأسرة تانغ إلى مبعوثو الدولة العباسية باسم "داشي أصحاب الملابس السوداء" للتمييز بينهم وبين مبعوثو الدولة الأموية الذين كان يُطلق عليهم "داشي أصحاب الملابس البيضاء". ويؤكد يوان نان شنغ أن تأسيس العلاقات الودية بين أسرة تانغ الصينية والدولة العباسية شكل بداية جديدة لتطور العلاقات الصينية العربية. ويلفت إلى أن التبادلات التجارية والاقتصادية والثقافية والعلمية بين أسرة تانغ والدول العربية بلغت مرحلة جديدة في تاريخ تطور التبادلات بين الجانبين. حيث ساعد الحرفيون الصينيون المتخصصون في صناعة الورق العرب في إقامة مصنع لصناعة الورق بسمرقند، ليتم نقل صناعة الورق بصورة أولية إلى العالم الإسلامي. كما تواجد في الكوفة عاصمة الدولة العباسية آنذاك الكثير من الحرفيين الصينيين. وساعد توافد الكثير من الحرفيين الصينيين إلى المنطقة العربية في ازدهار صناعة نسج الحرير الصينية الفريدة وانتشارها في بلاد ما بين النهرين. كما شهد الخزف الصيني انتشارا واسعا في مركز دولة الخلافة الإسلامية. ومنذ القرن الثامن الميلادي، ازدهرت التبادلات التجارية بين العرب والصين بفضل الطرق البرية والمائية، والتي اعتمدت على الطريق العشبي بشمال غرب الصين أي طريق الحرير البري، والطريق المائي أي طريق الحرير البحري. ويرى أن توافد القوافل البرية استمر عبر طريق الحرير البري، وكان عدد كبير من التجار العرب الوافدين إلى الصين يأتون من منطقة بلاد فارس. وبعد وفاة حفيد يزدجرد آخر ملوك الدولة الساسانية بمدينة تشانغآن الصينية، بلغ عدد البعثات الفارسية إلى الصين منذ العام العاشر من عصر كايوان حتى السادس من عصر تيانباو (722-747) 26 بعثة. كان معظمها من الفرس الذين قدموا عبر طريق الحرير. وكانوا يأتون إلى الصين محملين بالجواهر والتوابل، ويفدون في جماعات إلى قانسو وشانشي، بل وكانوا يتوغلون في سيتشوان وشرقاً حتى نهر اليانجتسي. كما سلك الكثير من التجار العرب طريق الحرير، ووصلوا إلى جياوجوو وقوانغجوو (كانتون) عبر الخليج العربي ومضيق ملقا. وكانت السفن التجارية العربية القادمة إلى الصين تُبحر من صُحار بسلطنة عُمان حاليا وسيراف المطلة على الخليج العربي، وتتجه نحو الساحل الغربي للهند مروراً بشبه جزيرة الملايو حتى تصل إلى الساحل الجنوبي الشرقي للصين. وكانت الصين آنذاك تُطلق على السفن التجارية الأجنبية القادمة إلى البلاد اسم سفن السوق (السفن التجارية) وسفن التبادلات، ومن بينها السفن الفارسية وسفن كونلون وسفن البراهمة وسفن مملكة الأسود، وكانت السفن الفارسية تشير إلى السفن التجارية العربية، وكان معظمها يصل إلى جياوجوو وقوانغجوو (كانتون)، ومنها ما يتجه شمالا إلى يانغجوو. وكانت يانغجوو آنذاك محوراً للطرق المائية بين الجنوب والشمال والشرق والغرب، كما كان بإمكان التجار الأجانب المرور عبر النهر وصولاً إلى سيتشوان. بينما كانت جياوجوو وقوانغجوو أكثر الأماكن الصينية التي أقام بها التجار الفرس والعرب، ويرجع ذلك إلى ازدهار حركة المرور عبر الخليج العربي والموانئ الصينية في عهد أسرة تانغ، حتى أصبحت يانغجوو وقوانغجوو أهم مراكز للتجارة الخارجية في جنوب شرق الصين. ويوضح أن التاريخ الصيني أثبت على مدار آلاف السنين أن الانفتاح يصحبه الازدهار والنمو، وأن الإنغلاق يتبعه التخلف والانحدار. ويوجد في الصين منذ القدم ثلاثة مسارات للانفتاح على الخارج، والتي تكمل بعضها البعض، وشكلت نمطاً منفتحاً لاستراتيجية البر الرئيسي الصيني والاستراتجية البحرية للصين. فقديماً في القرن الثاني قبل الميلاد، كان ينظر إلى أسرة خان وامبرطورية الفرس والامبراطورية الرومانية على أنها أكثر ثلاث امبراطوريات منفتحة حول العالم. وبلغ الانفتاح على الخارج ذروته في عصر أسرتي تانغ وسونغ، لتصل الطرق البرية إلى سبع طرق، وتشهد الطرق البحرية في عصر سونغ تطوراً غير مسبوق، وأصبحت موانئ تشيوانجوو وقوانغجوو ويانغجوو موانئ تجارية معروفة عالمياً. وشكلت هذه المسارات المنفتحة نمطاً منفتحاً لاستراتيجية البر الرئيسي الصيني والاستراتجية البحرية للصين. وخلال ذلك، حافظت الصين لفترة طويلة على مكانتها كأقوى دولة اقتصادية على مستوى العالم، وأصبحت دولة اقتصادية كبرى بلا منازع، ودولة تجارية كبرى وقوة مهيمنة. وخلال عصر أسرتي خان وتانغ، فتحت الصين أبوابها لأول مرة للعلاقات الدبلوماسية مع العام الخارجي، وأسست علاقات دبلوماسية بالمعنى الدولي. وساعدت "فتوحات جانغ تشيانغ" و"المسارات المنفتحة" في تجاوز الدبلوماسية الصينية القديمة للنطاق المحلي والشرق آسيوي وانفتاحها على العالم. "وخلال أكثر من 1000 عام من عصري خان وتانغ لاحقاً، تعمقت الدبلوماسية الصينية غرباً في آسيا الوسطى ودول غرب آسيا، حتى افريقيا وأوروبا، وشرقاً حتى الممالك الكورية الثلاث واليابان، وجنوباً حتى شبه جزيرة الهند الصينية وجزر ودول جنوب آسيا. وبالتالي كان عصر أسرتي خان وتانغ العصر الذي شهد تأسيس النمط الدبلوماسي الأساسي للعلاقات بين الصين القديمة والعالم الخارجي. وكان عصر تانغ العصر الأكثر انفتاحاً في تاريخ الصين، والعصر الذي شهد أكبر مساحة للدبلوماسية الصينية. ويكشف يوان نان شنغ أن الانفتاح الخارجي في عصر تانغ كان انفتاحاً متعدد الأوجه.. يقول الإمبراطور تانغ تاي تزونغ "شاع منذ القدم تقدير كل ما هو صيني، واحتقار ما هو أجنبي وبربري، ولكنا ننظر إلى الجميع بعين واحدة". وكانت هذه السياسة المنفتحة للتعامل مع الصيني والبربري سياسة غير مسبوقة في تاريخ الأُسر الإقطاعية. وشهدت تلك الفترة عمل الكثير من المثقفين الأجانب بالدوواين الحكومية الصينية. فلم يشهد طريق الحرير تدفقاً للسلع ذات القيمة العالية فحسب، وإنما شهد تدفقاً للموارد الثقافية الثرية. واتسم الانفتاح الثقافي في عصر تانغ بـ "كثرة الصادرات وكثرة الواردات". وتشير "كثرة الصادرات" إلى الثراء والسحر الكبير لثقافة تانغ والتي أثرت على الدول والمناطق المجاورة، فيما يشير "كثرة الواردات" إلى استيعاب عصر تانغ للثقافات الأجنبية بشكل شامل. ووفقاً لما جاء في كتاب "أخبار السند والهند" للتاجر سليمان، أنه بلغ عدد التجار الأجانب الذين يمارسون التجارة بقوانغجوو في نهاية عصر تانغ أكثر من 120 ألف تاجر، كما شهد النشاط الدبلوماسي في عصر تانغ توسعاً شاملاً. وقد ذكر كتاب "المعجم الشامل. معجم الدول المجاورة" أنه كانت هناك 189 دولة ونظام وقبيلة بينها وبين الصين صلات آنذاك. يذكر أن يوان نان شنغ، دبلوماسي سابق بعدد من القنصليات الصينية بالخارج، شغل منصب سكرتير الحزب الشيوعي ونائب عميد المعهد الدبلوماسي الصيني. صدر له عدد من المؤلفات في مجالات العلاقات الدولية والدبلوماسية والتاريخ. قام بترجمة عدد من الكتب منها "خصمان وحليفان: العلاقات الصينية السوفيتية خلال حرب المقاومة ضد اليابان" و"التنين والدب: بداية ونهاية النزاع الصيني السوفيتي". أما الأكاديمي والمترجم حسانين فهمي حسين فقد صدر له العديد من الترجمات من الصينية إلى العربية والعكس. حاصل على "جائزة "الشباب للترجمة" المركز القومي للترجمة"، و"جائزة الإسهام المتميز في ترجمة الكتب الصينية" وهي أكبر جائزة تمنحها الصين للمترجمين الأجانب، وجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي والعديد من شهادات التقدير المحلية والدولية لجهوده في الدراسات الصينية والترجمة. صدر له العديد من الترجمات بين الصينية والعربية عن دور نشر مصرية وعربية وأجنبية، من أهمها أعمال صاحب نوبل الصيني مويان "الذرة الرفيعة الحمراء" و"الصبي سارق الفجل"، و"مذكرات بائع الدماء" للروائي الصيني يوهوا، و"ثقافة
مشاركة :