يحتفي معرض أبوظبي للكتاب بالفليسوف ابن رشد، شخصية الدورة السادسة والعشرين التي ستنظم فيما بين 27 إبريل/نيسان الجاري و3 مايو/أيار القادم ستكون الفيلسوف ابن رشد، والاحتفاء بشخصية عربية مهمة لها أثر وتاريخ في العالم، هو تقليد بدأته إدارة المعرض منذ الدورة الرابعة والعشرين في 2014 في إطار تكثيف البرامج الثقافية المصاحبة للمعرض، وليكون وسيلة للتعريف بالشخصيات المهمة في التاريخ العربي الماضي والحاضر، وقد شهدت تلك الدورة احتفاء بشاعر العربية الأكبر أبي الطيب المتنبي، وفي الدورة الماضية احتفى المعرض بشخصية المغفور له، بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس الاتحاد وباني الوطن اعترافاً بأياديه البيضاء على الإمارات والأمة العربية. ابن رشد المحتفى به في هذه الدورة، هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، ويلقب بابن رشد الحفيد تميزاً له عن جده، وكان كلاهما عالماً وقاضياً، لكن الحفيد أشهر، لتبحره في فنون كثيرة من العلم، وكثرة تأليفه، واشتغاله بالفلسفة والطب والفلك، فقد كان فقيهاً وقاضياً وفيلسوفاً وطبيباً وفلكياً وفيزيائياً. ولد في قرطبة في حدود 520هـ وتوفي في مراكش عام 595هـ، نشأ في أسرة علم وجاه، كان لها السبق في القضاء والفقه، فقد كان جده قاضياً ومستشاراً لأمراء الدولة المرابطية، وكان أبوه قاضياً ثم فقيهاً له مجلس يدرس فيه في جامع قرطبة، وقد تهيأت لابن رشد كل الظروف لكي يدرس العلم ويتبحر فيه، سواء على يد والده أو على يد غيره من العلماء المشهورين آنذاك، فتنقل بين عدد كبير منهم ليأخذ عنهم العلوم كل حسب تخصصه، ولم يترك مجالاً من مجالات ذلك العصر إلا واهتم بإتقانه، وكانت له حافظة قوية تساعده على حفظ المتون واستظهارها، وهكذا استطاع ابن رشد أن يحيط بعلوم عصره وهو لا يزال في عنفوان شبابه، فجلس للتدريس والتأليف، ثم ولي القضاء في إشبيلية ثم قرطبة، ثم استدعاه الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف إلى مراكش سنة 578هـ وجعله طبيبه الخاص، وقربه منه وقضى في مراكش زهاء عشر سنوات، حظي خلالها بثقة الخليفة الموحدي، فأصبح فوق الطبابة مستشاره ومبعوثه الخاص إلى الأقاليم المغربية، ولأجلها طاف في رحلات متتابعة في مختلف أصقاع المغرب والأندلس، فتنقَّل بين مراكش وإشبيلية وقرطبة. ابن رشد عند مؤرخي الثقافة وعند الكتاب الغربيين هو فيلسوف رائد في القرون الوسطى، أما عند أصحاب السير وطبقات العلماء المسلمين فهو العالم الذي نشأ بالأندلس مثله كمالاً وعلماً وفضلاً، وكان متواضعاً، يقال إنه لم يترك الاشتغال بالنظر سوى ليلتين: ليلة موت أبيه، وليلة زواجه، وإنه كتب نحو عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الحكماء، فكانت له فيها الإمامة، وكانت له شهرة واسعة في الطب والفقه، مع غزارة اللغة وكثرة الحفظ من الشعر، وهو إمام في الفقه المالكي بشكل خاص، ويعتبر كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد أحد أمهات كتب المالكية، لكنّ شهرة ابن رشد متأتية بشكل خاص من تراثه الفلسفي، وما أودعه فيه من نظر ثاقب استطاع به أن يصنع الريادة في عصور الفلسفة الوسيطة، من ناحيتين: الأولى أنه قرب إلى عقول مثقفي عصره كتب أرسطو وأفلاطون بما وضعه عليها من شروح، وما قدمه من نقد ثاقب لنظرياتهما، وثانيهما أن ابن رشد سواء في مؤلفاته أو شروحه للفلاسفة، انطلق من عقيدته كمسلم موحد، ونظر إلى الفلسفة باعتبار: (أن فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها، وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات، وحث على ذلك، فبيّن أن ما يدل عليه هذا الاسم إما واجب بالشرع، وإما مندوب إليه، فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل، وتطلب معرفتها به، فذلك بيّن في غير ما آية من كتاب الله، تبارك وتعالى) - كما جاء في مقدمة فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من اتصال- وعلى أساس هذه سعى إلى التوفيق بين الفلسفة والدين وإيجاد نقاط لقاء بينهما باعتبارهما يبحثان عن الحقيقة نفسها ويلتقيان عندها. إن احتفاء معرض أبوظبي للكتاب بفيلسوف الأندلس الأشهر يؤشر إلى عدة حقائق، ففضلاً عن القيمة المعرفية والثقافية التي يمثلها ابن رشد في تراثنا، فنحن أيضاً في حاجة إلى فكر الاستنارة، وإلى العودة إلى تلك الرؤى العقلانية التي وفقت بين الحكمة والشريعة بوصفهما يؤديان إلى الهدف نفسه، وابن رشد كذلك يرمز إلى القدرة على مد جسور التواصل بين حقول المعرفة المختلفة والانفتاح على الثقافات المتعددة بما يختزنه كل ذلك من مفردات الحوار والنقاش والتسامح، وهي مفردات نحن أحوج ما نكون إليها في الساحة العربية.
مشاركة :