تحولت الجرارات في دول أوروبية عدة من وسائل تساعد على الإنتاج الزراعي إلى أدوات احتجاج، وذهبت أصوات إلى عدّها وسيلة حرب، مع تزايد وتيرة مشاهد إغلاق الطرق السريعة ومداخل كبرى المدن الأوروبية، بعد مسيرات مزارعين؛ لأيام وحتى أسابيع، بهذه الآلات الثقيلة والبطيئة، على امتداد آلاف الكيلومترات من الأرياف نحو مراكز القرار، لإبلاغ الجميع؛ مواطنين وصناع قرار، رسالة مفادها "إذا توقفنا تجوعون". وشهِدت أوروبا خلال 100 يوم؛ ما بين نوفمبر 2023 ويناير 2024، زهاء 1600 احتجاج في 22 دولة أوروبية. كان النصيب الأكبر للرباعي: فرنسا وألمانيا وبولندا ورومانيا، في جبهة موحدة، رغم التفاوتات القطاعية محليا، ضد السياسات الزراعية للاتحاد الأوروبي. وسجلت فرنسا وألمانيا وحدهما نسبة 60 % من إجمالي هذه الاحتجاجات، التي تعود بواكيرها إلى الخريف الماضي، باحتجاج رمزي للفلاحيين، تمثَّل في قلب لافتات أسماء البلدات والقرى رأسا على عقب، في إشارة منهم إلى أن السياسة القطاعية تسير بالمقلوب. وجد المزارعون في بلدان الاتحاد أنفسهم محاصرين من ناحية -وإن بدرجات مختلفة- بنظم بيئية تحدّ من حرياتهم، تفرضها "الصفقة الأوروبية الخضراء" (2019) التي تسعى لبلوغ "الحياد المناخي"؛ أي التخلص نهائيا من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بحلول 2050. من ناحية أخرى، بتداعيات سياسة التجارة الحرة مع بلدان من مختلف بقاع العالم، لا تُلزم فلاحيها بأي معايير على غرار تلك المعتمدة من قبل الاتحاد. يُجمع الفلاحون الأوروبيون، تحديدا صغارهم، على رفض كثير من بنود السياسة الزراعية المشتركة، مثل ربط التمويل بإزاحة ما لا يقل عن 4 % من الأراضي، وخفض استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة، ما ينعكس -لا محالة- على كمية الإنتاج. بذلك، تصبح هذه السياسة موجهة لخدمة كبار الفلاحين (اللوبي الزراعي) على حساب صغار المزارعين الذين يمثلون الأغلبية، ناهيك عن معضلة توزيع المساعدات، حيث أفاد تقرير ليومية "إلبايس" الإسبانية، أن 80 % منها تذهب إلى 20 % من ملاك الأراضي. يطالب المحتجون كذلك بفرض قيود أكثر صرامة على المنتجات القادمة من خارج الاتحاد الأوروبي. وكان المزارعون البولنديون أول من بدأ الاحتجاج ضد غزو المنتجات الأوكرانية التي أغرقت الأسواق الأوروبية، بعد تعليق المفوضية الأوروبية رسوم الاستيراد لدعم أوكرانيا. قرار عدّته صحيفة رومانية أشبه بتطوع شخص لا يعرف السباحة لإنقاذ شخص آخر يغرق، فينتهي بهما الأمر إلى الغرق معا. خوفا من السيناريو الأوكراني، طالب المحتجون بوقف مفاوضات التجارة الحرة مع دول ميركوسور (البرازيل والأرجنتين والأوروغواي والباراغواي) المستمرة منذ التوصل إلى اتفاق سياسي 2019. بعيدا عن المطالب، يحتدم السجال المعزز بلغة الأرقام حول القطاع في أوروبا، فالزراعة تُشغِل حوالي 8.7 مليون شخص داخل أوروبا، مع تراجع سنوي في أعداد العاملين بتفضيل العمال قطاعات أقل جهدا وأعلى دخلا. فمثلا في فرنسا؛ القوة الزراعية الأولى داخل الاتحاد، انخفضت نسبة المزارعين ضمن القوى العاملة من 35 % عام 1946 إلى 2 % فقط 2024. في المقابل، لا تزال الميزانية المرصودة للقطاع ضخمة، حيث تمثل 30 % من ميزانية الإطار المالي متعددة السنوات (2021 و2027)، التي تقدر بـ387 مليار يورو. لكل ذلك، تنادي أصوات في عدد من الحكومات الأوروبية بعدم الانسياق وراء هذه المطالب، فالزراعة -بحسب هؤلاء- نشاط اقتصادي، يرمي تحصيل أرباح لا عملا خيريا في خدمة الدولة، وعلى أصحابه أن لا يمنّوا على الدولة التي حولته إلى قطاع مدلل على امتداد عقود من الزمن. دعوات لم تلق أذانا صاغية من رجال السياسة، لأن ما يحدث يهدد الاقتصاد الأوروبي بخسائر فادحة، ناهيك عن مخاوف من تزايد كثافتها واتساع رقعتها، ما ينذر بإعادة تجربة أصحاب السترات الصفراء، على بعد أشهر من الانتخابات التشريعية الأوروبية.
مشاركة :