هناك ثمة كيانات مستقلة في شكل جزر متناهية الصغر في المحيط الهادئ مثل: بالاو، ميكرونيسيا المتحدة، جزر سليمان، نارو، جزر مارشال، فانواتو، توفالو، فيجي، كيريباتي، تونغا، ساموا، نييوي، جزر كوك، علاوة «بابوا غينيا الجديدة»، التي تعد أكبرها مساحة. هذه الكيانات، التي تتمتع بعضوية الأمم المتحدة، ولها نفس حقوق الدول الكبرى في الجمعية العامة للأمم المتحدة لجهة التصويت، تجد نفسها اليوم واقعة تحت ضغوط مصدرها الحرب الباردة الجديدة بين العملاقين الأمريكي والصيني، والتي تفرض تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية عليها أن تتخذ موقفاً حذراً كيلا تتحول إلى وقود للحرب المشتعلة بين واشنطن وبكين، أو ساحة شد وجذب بينهما. مؤخراً، لوحظ بروز توجه لدى معظم هذه الدول نحو تبني شعار «أصدقاء للجميع ولا أعداء لأحد»، (Friends to all and enemies to none) إيثاراً للسلامة. ويذكرنا هذا الشعار بشعار «لا شرقية ولا غربية»، الذي تبنته في ستينيات القرن العشرين مجموعة الدول الأفريقية والآسيوية المستقلة المؤسسة لما عرف وقتذاك بـ«حركة الحياد الإيجابي» أو «حركة عدم الانحياز»، من أجل تفادي تأثيرات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، وإن أفرغ بعضها الشعار من محتواه بانحيازها إلى سياسات واستراتيجيات أحد الطرفين. تبلور هذا التوجه في الاجتماع الثاني والخمسين لمنتدى جزر المحيط الهادئ، الذي انعقد مؤخراً في «رارو تونغا» بجزر كوك، بحضور أستراليا ونيوزيلندا، (بحكم عضويتهما في المنتدى كونهما أقرب جارتين كبيرتين جغرافياً للدول الصغيرة الأعضاء)، حيث أكد معظم القادة المجتمعين أن دولهم باتت تنزلق على نحو متزايد إلى ملعب جيوسياسي لاستعراض القوة بين بكين وواشنطن، وأن الوضع المعقد يتطلب تبني سياسة «أصدقاء للجميع ولا أعداء لأحد»، إزاء القطبين الصيني والأمريكي، وكل الشركاء الثنائيين ضماناً للمصالح الوطنية القصيرة والطويلة، وتأكيداً «لحيادنا خلال هذه الفترة من التنافس الشديد»، علماً بأن أستراليا ونيوزيلندا ليستا في وارد تبني مثل هذا التوجه كونهما حليفتين للولايات المتحدة. والمعروف أن هذا المنتدى تأسس في عام 1971، بهدف التعاون وبناء السلام والتصدي للتحديات الفريدة، التي تواجهها الدول الأعضاء مثل الأمنين البحري والسيبراني والتنمية المستدامة والحوكمة وتغير المناخ والمساواة بين الجنسين وتمكين الشباب وغيرها، لكن يبدو أن أعضاء المنتدى ليسوا متشابهين في مواقفهم من الصين والولايات المتحدة، فإذا ما تركنا أستراليا ونيوزيلندا جانباً، نجد أن بعض دول جزر المحيط الهادئ أقرب إلى بكين منها إلى واشنطن، والعكس صحيح. وسبب هذا التباين في المواقف هو أن كل دول المنتدى ضعيفة القدرات والإمكانات، وبالتالي فهي بحاجة ماسة للمساعدات التنموية الأجنبية، ولهذا تسابق الصينيون والأمريكيون على تقديم الدعم، كل لأغراضه الجيوسياسية الخاصة، فالصين مثلاً تركت بصمتها في المنطقة من خلال «مبادرة الحزام والطريق»، وما يتضمنها من مشاريع للبنية التحتية بتمويل من بنك التصدير والاستيراد الصيني في شكل قروض لدول المنطقة الصغيرة. وعلى حين لوحظ عدم تحمس عدد من دول المنطقة للمبادرة الصينية وقروضها، بسبب مخاطر الديون، فإن دولاً أخرى مثل «جزر سليمان» و«كيريباتي»، رحبت بها وراحت توثق علاقاتها الاستراتيجية مع بكين، ولعل أقوى دليل على ميل هاتين الدولتين نحو الصين قطعهما علاقاتهما الدبلوماسية مع تايوان، وهي الخطوة التي ثمنتها بكين، فضاعفت مساعداتها لهما، ومنها مساعدات أمنية وشرطية لجزر سليمان في عام 2022. قرعت هذه التطورات جرس الإنذار في واشنطن، فسارعت إلى دعوة قادة المنتدى إلى البيت الأبيض العام الماضي، واستضافت مؤتمرهم في واشنطن لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما قامت بمشاركة حليفتها الأسترالية بضخ المزيد من الأموال من صناديق الاستثمار العامة لصالح دول المنتدى الصغيرة، تفادياً لسقوطها بيد الصينيين، واستغلالاً لانخفاض الموارد الصينية الرسمية المخصصة لتنمية جزر المحيط الهادئ بشكل ملحوظ منذ 2016. في التفاصيل، نجد أن واشنطن تعهدت في قمة المنتدى في عامي 2022 و2023 بضخ أكثر من نصف مليار دولار، لمعالجة تغير المناخ في الدول الأعضاء، باعتبارها من القضايا الرئيسة في المنطقة، كما أنها أعربت على لسان سفيرتها لدى الأمم المتحدة ليندا غرينفيلد عن استعدادها للاستمرار في دعم أولويات دول المنطقة. وفي مايو 2023 وقعت واشنطن اتفاقية تعاون دفاعي مع بابوا غينيا الجديدة تسمح الأخيرة بموجبها للجيش الأمريكي باستخدام ستة من موانئها البحرية والجوية. Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :