فراس السواح يدرس برصانة أول قصة في الأدب الإنساني

  • 2/15/2024
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

"ملحمة جلجامش"، أول قصة في الأدب الإنساني، وهي عبارة عن نص شعري طويل منقوش باللغة الأكادية البابلية على اثني عشر رقيما فخاريا عُثر عليها في مكتبة الملك الآشوري آشور بانيبال (668 - 633 ق.م) في العاصمة نينوى، وهي تروي حياة وأعمال الملك جلجامش الذي حكم أوروك، كُبرى المدن السومرية في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، وذلك بطريقةٍ يمتزج فيها التاريخ بالأسطورة والمرويات الشعبية. وقد لقيت الملحمة منذ اكتشافها في أواسط القرن التاسع عشر عناية الباحثين الغربيين؛ فتُرجمت إلى جميع اللغات الأوروبية، وقُدِّمت للجمهور على شكل عروضٍ مسرحية وعروض رقصٍ تعبيري، وكُتبت فيها عشرات المؤلفات وما لا يُحصى من المقالات النقدية والأبحاث الأكاديمية. من خلال دراسة أكاديمية رصينة لهذه الملحمة؛ يقدم المفكر السوري اللامع في سماء ميثولوجيا الشرق، والمؤرخ في تاريخ الأديان فراس السواح، للقارئ نصا أدبيا يَنبض بالحياة، وتتجلَّى فيه المعاني الإنسانية العميقة والأسئلة الوجودية التي راحت تُثير ذهنَ الإنسان الأول وفِكرَه. يقدم السواح دراسة مقارنة للعديد من النصوص التاريخية لهذه المَلحمة، وأهم ترجماتها الحديثة سواء العربية أو الغربية، ثم يقدم ترجمته لها برؤية جديدة، ويقف على رسالتها الفلسفية والأخلاقية، ثم يتطرق إلى تأثيرها على مختلِف الأساطير التاريخية الأخرى. كما قدم رؤية مسرحية درامية للمَلحمة عبر نص راعى فيه الضوابطَ العامة للفن المسرحي. يقول سواح في كتابه الصادر عن مؤسسة هنداوي "جلجامش ملحمة الرافدين الخالدة: دراسة شاملة مع النصوص الكاملة وإعداد درامي" إن ملحمة جلجامش هي نص شعري طويل مكتوب بالأكادية البابلية، وموزع على اثني عشر لوحا فخاريا. تروي الملحمة عن حياة وأعمال الملك جلجامش ملك أوروك بطريقة يمتزج فيها التاريخ بالأسطورة. وقد وجدت الألواح في مكتبة آشور بانيبال تحت أنقاض القصر الملكي بالعاصمة نينوى. يدعى نص نينوى هذا بالنص الأساسي، أو المعياري؛ لأنه الشكل الأدبي الأخير الذي اتخذته الملحمة بعد فترة طويلة من التطور والتغير دامت قرابة ألف عام. ويتميز هذا النص الأساسي عن بقية النصوص السابقة عليه، بأن ألواحه الفخارية خرجت سليمة نسبيا، وفي حالة تسمح بقراءة متسلسلة، رغم الكسور الحاصلة في بعضها والتشوهات التي أصابت الكثير من سطورها. ونص نينوى هو سليل نص أقدم منه بكثير دون خلال العصر البابلي القديم، واستلهم كاتبه عددا من النصوص الأدبية والأسطورية السومرية التي تدور حول جلجامش، وبعض الأخبار المتفرقة المتداولة عنه، وحاك من ذلك كله، وبطريقة مبدعة خلَّاقة، نصَّه الذي ندعوه اليوم بالنص البابلي القديم". ويوضح "وصلنا حتى الآن ستة نصوص سومرية تدور موضوعاتها حول جلجامش وهي: جلجامش وأرض الأحياء، جلجامش وثور السماء، جلجامش وشجرة الحلبو، جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل، جلجامش وأجا، موت جلجامش. يضاف إلى هذه النصوص الستة نص عن الطوفان لا يدور حول جلجامش ولكنه أثر في أسطورة الطوفان البابلية التي أدمجها محرر النص الأساسي في نسيج الملحمة. وهذه النصوص جميعها قد تم تدوينها في عصر أسرة أور الثالثة. يضيء سواح النصوص الستة مؤكدا أن محرر (أو محرري) النص الأكادي قد اعتمد عددًا من قصص جلجامش السومرية، سواء في نصوصها المعروفة لدينا أو في نصوص أخرى لم تصلنا. كما اعتمد قصصًا وأساطير أخرى أكادية، وصاغها جميعًا في سلسلة متماسكة ذات مؤدًّى ومعنًى جديد كل الجِدة، وبطريقة مبدعة خلَّاقة جعلت الأحداث والأفكار التي صبت في الملحمة من خارجها لا يربطها بمصادرها الأصلية إلا أوهى الروابط. يضاف إلى ذلك ما ساهم به المحررُ الأكاديُّ من إضافات خاصة به لا علاقة لها بمصادره القديمة. وهذه الإضافات التي ينفرد بها النص الأكادي هي التي أعطت الملحمة لحمتها وتماسكها، وأدت إلى صياغة رسالتها الفلسفية. ولعل من أهم إضافات المحرر الأكادي تلك السلسلة من الأحداث التي قادت إلى قيام الصداقة بين جلجامش وإنكيدو. أما واقعة موت إنكيدو التي كانت في النصِّ السومري مدخلًا لإعطاء جلجامش معلومات عن أحوال الموتى في العالم الأسفل، فقد جعل منها المحرر الأكادي ذروة التطور الدرامي في قصته، ونقطة الانعطاف في حياة جلجامش، الذي هجر الملك والسلطان، وابتدأ رحلة بحثه الروحي الطويل. كما أن هذه الرحلة وما جرى له خلالها انتهاءً بلقائه بأوتنابشتيم ثم عودته إلى أوروك وقد تغير تمامًا، هي ابتكار خاص بالملحمة الأكادية. إن الملحمة الأكادية هي عمل أدبي مبدع وخلاق ينطوي على حكمة أصيلة وغير مستعارة. وقد سعى سواح إلى استجلاء الملحمة في نَصِّها الأقدم، والذي يعود إلى العصر البابلي القديم (2000– 1600ق.م)، متابعا التطورات التي طرأت على النص إلى أن استقر تمامًا خلال الألف الأول قبل الميلاد. ويشير إلى أن "إن العمل التحريري الخلاق الذي قاد إلى إنتاج هذا النص المتكامل، بحبكته الأدبية وأسلوبه المبدع، وطريقته في جمع العناصر المتفرقة القديمة إلى بعضها، والإضافة عليها وتوجيهها لخدمة أفكار ومضامين جديدة، يستحق منا أن نطلق عليه صفة التأليف الأدبي لا صفة الجمع أو التحرير. مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية وجود مرحلة وسيطة من الجمع والتحرير لم تصلنا شواهدها، قد فصلت بين النصوص المتفرقة والملحمة المتكاملة. وهنا، من الممكن جدًّا أن يكون المسئول عن ذلك عدد من الكتَّاب الأكاديين الذين كانوا يدرسون السومرية كجزء من عملية تأهيلهم المهني، وأن يكون بعض هؤلاء الكتَّاب قد جمع عددًا من النصوص السومرية في وحدات أدبية أطول، ثم جاء مؤلف الملحمة فاستفاد من هذه العملية التحريرية الوسيطة. ولعل مما يرجح وجود هذه المرحلة التحريرية تلك الفوارق الواضحة في الصياغة بين النصِّ الأكادي والنصوص السومرية، الأمر الذي يدل على أن المؤلف الأكادي لم يكن يستعمل النصوص السومرية الأصلية بل نسخًا أكادية مُعدلةً عنها". ويقول "إذا اعتبرنا النتاج الفكري والأدبي مرآة لحركة المجتمع، فإن جلجامش هو أول فرد في التاريخ، ومطلع الألف الثاني قبل الميلاد هو الوقت الذي حدد تمايز الفرد عن الجماعة، وظهور الشخصيات التي تفعل في الجماعة وتؤثر في منحى تطورها بدل أن تكون انعكاسًا لحركتها. فقبل ملحمة جلجامش، لا نعثر في أدبيات الشرق الأدنى القديم (وهي أول أدبيات مدونة في التاريخ) على ملامح واضحة للفرد. فالنصوص، جلها، تتعامل مع الشخصيات الإلهية الطاغية التي صنعت الكون وخلقت الإنسان وبنت له مدنه وعلمته وأسست له تقاليده الحضارية، وهو في كل ذلك، الجانب السلبي المنفعل المتلقي. فإذا عثرنا على الفرد لم نستطع رسم ملامحه الواضحة أو نحدد سماته المستقلة، سواء عن حركة الجماعة أم عن إرادة الآلهة التي تمسك بخيوط مقاديره ومصائره. فجأة ينتصب جلجامش، كأول شخصية تعلن عن حضورها في استقلال عن الجماعة وعن آلهتها، معلنًا ابتداء عصر الإنسان الذي يرث الأرض، ويشق عباب الزمن الآتي كابن بار للإله، يطمح إلى الجلوس عن يمينه، لا كعبد مسلوب واقع في دارة الميلاد والموت المفرغة، شأن بقية الأحياء. إن اكتشاف حدود الكون السحيقة، اليوم، واكتناه أسرار الذرة وخفايا البيولوجيا الحية. والهبوط على سطح الكواكب، وما إلى ذلك من فتوح معرفية، هي تتمة للأوديسة الجلجامشية". ويضيف "جلجامش الفرد لم يؤسس لفردية فوضوية خارجة عن الكل، ساعية وراء أهدافها وغاياتها المستقلة والمتضاربة مع غايات الجماعة والبحث الإنساني المشترك، بل لقد جعل من نفسه النموذج الذي يمكن لأية شخصية في الجماعة أن تتشكل وفقه وتنسج على منواله، ليغدو المجتمع فريقًا من الأحرار لا حيوانًا بآلاف العيون.. وهو بتطوره الشخصي من الفردية الفوضوية إلى الفردية الجماعية المنظمة، ومن الاهتمام بالمصير الخاص إلى العناية بالمصير الإنساني، إنما يحدد المسار الذي يحرر الأفراد ويربطهم في آن معًا، في مسيرة الإنسانية الكبرى نحو معرفة الذات ومعرفة الكون وخلافة الله: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". ويرى سواح "إن الأسطر الأولى من الملحمة، التي تتحدث عن مآثر جلجامش وأعماله، لا تتطرق إلى بحثه عن الخلود، بل تركز على الحكمة التي اكتسبها بكدحه الطويل المرير. وهي بذلك تستبق النهاية التي توصل إليها، وعودته سالمًا غانمًا راضيًا، يحمل كنزًا من المعرفة والحكمة التي هي هدف الإنسان في هذه الحياة ومصدر سعادته. لقد أخفق جلجامش في الحصول على الخلود، ولكنه توصل إلى معرفة معنى الحياة وغايتها. ذلك المعنى الذي يكمن في الحرية مع الآخرين ومن أجل الجميع، في الفعل الحر الخلاق، لا من أجل خلود الذكر الفردي، بل من أجل أهداف إنسانية شاملة، في الحضارة الإنسانية الساعية أبدًا لتنصيب الإنسان ملكًا يجلس على يمين العرش الإلهي. في استنفاذ حدود الممكن وإبقاء الأبواب مفتوحة على غير الممكن؛ لأن الممكن وغير الممكن نسبيان في كل أوانٍ وزمانٍ، وأخيرًا في الحكمة والمعرفة التي نطرق بها باب المستحيلات. لم يقهر جلجامش الموت، بل وحتى لم يقهر خوفه من الموت؛ لأن الخوف من الموت شرط لحب الحياة واستنفاذ ممكناتها. لقد قبل الموت، وبقبوله للموت قد قبل الحياة". ويتوقف مع أثر ملحمة جلجامش في كتاب التوراة "سفر الجامعة، قصة آدم وحواء ـ قصة شمشون"، وأثرها في الأسطورة الإغريقية " شخصية ثيسيوس ـ أخيل ـ هرقل"، وفي بعض المرويات الشعبية العربية " ذو القرنين ". مؤكدا أن جلجامش تعلم من جملة ما تعلم، وعلمنا، أن معنى الحياة قائم في المعرفة والحكمة التي نكتسبها ونسلمها لمن يرث الأرض بعدنا، وفي الفعل الحضاري الخلاق. وها هي حياة الملحمة من بعده تثبت أنه كان على حقٍّ. فإضافة إلى ذيوع الملحمة بنصها في جميع أرجاء الشرق القديم، فإن أفكارها قد ساهمت بنصيب، يليق بها، في الحياة الفكرية والروحية لحضارة المنطقة والحضارات المجاورة، وأخذت مكانها في حضارة الكون القائمة. ألسنا جلوسًا الآن نقرأ جلجامش ونحاوره، وكأن ألوف السنين الماضيات قد ذابت؟". وفي مقدمته للنص يلفت سواح إلى أنه في إعداده الدرامي لم يقدم رؤية خاصة للنص أو إسقاطات فكرية وفلسفية معاصرة، على ما درج عليه بعض المؤلفين الذين استلهموا المسرح الإغريقي القديم، بل لقد قدم النص الأكادي كما هو وبجميع أفكاره وشخصياته وتتابع أحداثه، مع إضافة عددٍ من المشاهد غير الموجودة فيه؛ وذلك لضروراتٍ فنية من جهة؛ ولتوسيع الفضاء المحيط بالحدث من جهة ثانية. ويقول "لكن إعدادي الدرامي لا يخلو في الوقت نفسه من بسط تفسيري الخاص الذي أختلف فيه مع بقية الدارسين، والذي بسطته مُطولا في مؤلَّفي "كنوز الأعماق"، ومؤلَّفي الآخر "جلجامش: ملحمة الرافدين الخالدة". وقد استخدمت في التأليف لغة ذات جِرسٍ شعريٍّ وإيقاع موسيقي يستحضر الجو الشعري الملحمي الأكادي. وبما أني قد قفزت فوق مواضع النقص والكسور في الرُّقم الفَخارية، وملأت بعض هذه المواضع بما يتلاءم وسير الأحداث اعتمادا على أُلفةٍ طويلة مع النص، فإن القارئ يستطيع أن يجلس في هدوء واسترخاء ويقرأ هذا الإعداد وهو مطمئنٌّ إلى أنه سوف يجني ما كان يمكن أن يجنيه من قراءة النص الأكاديمي، ولكن بمجهودٍ أقل وبمتعة أكثر.. على أن ترجمتي الأكاديمية كانت أسبق إلى الظهور على المسرح من إعدادها الدرامي؛ ففي عام 1999م جاء إلى المنطقة المُخرج المسرحي الفرنسي باسكال رامبيير يبحث عن نص عربي للملحمة يتطابق مع نص عالِم الأكاديات الفرنسي بوتيرو. وبعد اطلاعه على عدد من الترجمات العربية وجد ضالته في ترجمتي، فقدمها بالتعاون مع فريقٍ مسرحي سوري في قلعة دمشق في عرضٍ تجريبي. وبعد عامين أعاد تقديمها في مهرجان أفينيون المسرحي العالمي باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية، وثلاث مجموعات من الممثلين؛ سورية وفرنسية وأميركية، في عرضٍ دام أربع ساعات في الهواء الطلق، وكانت الترجمات تظهر على شاشات كبيرة يُتابِع عليها المشاهدون الحوار. وقد دُعيتُ عندها من قِبل إدارة المهرجان لرؤية العرض ومتابعة بقية العروض.

مشاركة :