أعرب الغرب في تقرير ميونيخ للأمن لعام 2024 الذي صدر حديثا، عن مخاوفه إزاء ظهور "ديناميات الخسارة للجميع"، حيث لم تعد العديد من الحكومات تركز على الفوائد المطلقة للتعاون العالمي. وهذه الشواغل تستحق النظر فيها بجدية. لكن الأمر الأكثر أهمية يكمن في ضرورة أن يفكر الغرب مليا في الدور الذي لعبه في دفع وضع الخسارة للجميع على الساحة العالمية. ليست هذه هي المرة الأولى التي يجد فيها الغرب نفسه يتخبط في حالة من عدم اليقين وعدم الارتياح. فقد كان اندلاع الصراعات، بما في ذلك الأزمة الأوكرانية وأزمة غزة، وآثارها غير مباشرة، سببا في زعزعة استقرار الغرب لسنوات. وقد أضفى هذا القدر من عدم الارتياح صبغة من التشاؤم على العديد من مؤتمرات ميونيخ للأمن الأخيرة. في الواقع، الغرب مسؤول إلى حد كبير عن عدم الاستقرار واندلاع الأعمال العدائية التي حطمت السلام العالمي. فلقد تركت الموروثات التاريخية المتمثلة في الاستعمار والتدخل والمناورات الجيوسياسة ندوبا لا تمحى على المناطق والحضارات بجميع أنحاء العالم، وأدت إلى تفاقم المظالم وإدامة العنف وعدم الاستقرار. ويسلط التقرير الضوء بحق على التزايد المقلق لعقلية المحصلة الصفرية في الشؤون العالمية. ولكن من الأهمية بمكان الاعتراف بأن الغرب، على الرغم من إخلاصه المعلن للأفكار الليبرالية والمبادئ الديمقراطية، مُقيد بشدة بأغلال عقلية الحرب الباردة التي تخنق النمو وتديم الانقسامات. وإن عقلية الحرب الباردة هذه، التي تنبع من عقود من التنافس الجيوسياسي والمواجهة الإيديولوجية، لا يزال لها تأثير قوي على السياسات الغربية والتفكير الإستراتيجي الغربي. كما أن العقلية الثنائية المتمثلة في "نحن في مواجهة هم"، والتي تحددها سياسات التكتلات وألعاب المحصلة الصفرية، تستمر في تشكيل مفاهيم الصديق والعدو، والحليف والخصم. وفي التقرير، لاحظ القائمون على إعداده أيضا اتجاها مقلقا: فالبلدان تحدد نجاحها بشكل متزايد على أساس نسبي، بدلا من إعطاء الأولوية للرفاه الجماعي للمجتمع الدولي. وإن التزام الصين ببناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية يتباين تباينا شاسعا مع انشغال الغرب بمواجهة التهديدات المتصورة والحفاظ على هيمنته الذاتية. وبالنظر إلى مبادرة الحزام والطريق التي طرحتها الصين وسلسلة الخطط الغربية التي جاءت في أعقاب هذه المبادرة، فإن الحقيقة صارت غنية عن البيان. سواء كانت شراكة البنية التحتية العالمية والاستثمار التي أطلقتها مجموعة السبع، أو خطة "إعادة بناء عالم أفضل" التي أطلقتها واشنطن، أو مبادرة البوابة العالمية التي أطلقها الاتحاد الأوروبي، فإن ممارسة بناء العلامة التجارية الغربية، كما جاء في تعليق لـ((رويترز))، لا تهدف سوى إلى تحسين "العلاقات مع الدول النامية لمنعها من الوقوع في احضان الصين. وليس من المستغرب أن يكون تجاوب الغرب مع مبادرة الحزام والطريق غامضا ولم يكن مفاجئا بالنسبة للجنوب العالمي. لقد حظي الجنوب العالمي باهتمام خاص في التقييم الأمني لهذا العام. ومنذ العام الماضي، يركز مؤتمر ميونيخ للأمن تركيزا أكبر على بلدان الجنوب العالمي. وأحد العناصر المساهمة في ذلك هو الاعتراف بضعف دعم الجنوب العالمي للنهج الذي يتبعه الغرب في التعامل مع أوكرانيا. وعلى هذا النحو، قد تبدو بعض البيانات الواردة في التقرير مناصرة لقضية الجنوب العالمي، ولكنها في الأساس لا تزال مُقيدة بشدة بالتقليد الغربي المتمثل في سياسة التكتلات. وللتغلب على المأزق الحالي المتمثل في أن الحكومات "تخشى على نحو متزايد أن تكسب أقل من غيرها"، اقترح التقرير حلا يقول: في الوقت الذي ينبغي فيه على الشركاء عبر الأطلسي و"الدول ذات التفكير المماثل" الاستثمار في الدفاع والردع، ينبغي عليهم أن يقصروا سعيهم إلى تحقيق منافع متبادلة على "الدول ذات التفكير المماثل سياسيا". ويبرهن هذا الهوس بالمواجهة بين التكتلات أن العالم الغربي هو الخالق الفعلي لوضع الخسارة للجميع. وفي السياق العالمي، تتمسك الصين بتعددية حقيقية وتدعو إلى نمط جديد من العلاقات الدولية يعطي الأولوية للتعاون والمنفعة المتبادلة. إن المقترحات التي طرحتها الصين في السنوات الأخيرة، بما في ذلك بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية، ومبادرة الحزام والطريق، ومبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية، ساهمت جميعها في إيجاد حلول محايدة للتحديات العالمية. وبينما يعتزم الغرب تكوين صداقات مع "من لديهم تفكير مماثل سياسيا" لتجنب وضع الخسارة للجميع، فإن التعددية الحقيقية، التي تناصرها الصين بشدة، تثبت أنها أكثر إقناعا.
مشاركة :