ظهرت موسوعة غينيس للأرقام القياسية عام 1955، للإجابة على أكثر الأسئلة تحدياً بين الناس. خطرت على بال السيد هيوج بيفر بعـد رحلة صيد مع أصدقائه دخل خلالها في جدال طويل حـول أسرع الطيور في إنجلترا. حـققت أول طبعة نجاحاً استثنائياً، وأصبحت (هذه الأيام) صاحبة الرقم القياسي في أكثر الكتب مبيعاً بأكثر من 100 مليون نسخة حول العالم. وتكمن أهمية هذه الموسوعة في تحولها إلى سجل عالمي يتم الاحتكام إليـه لمعرفة أكبر وأضخم الإنجازات البشرية. لم يعـد هناك من يشكك في دقتها وموثوقيتها بسبب إجراءات التحقق الصعبة التي تجريها الشركة الناشرة لها قـبل اعتماد أي رقم قياسي جديد.. وكنت شخصياً قد اشتريت أول نسخة من هذه الموسوعة في سن الثالثة عشرة، ولفت انتباهي حينها تضمنها لمجموعة كبيرة من الأرقام السعودية.. أتذكر منها بناء مدينة الجبيل الصناعية (عام 1975) كأكبر منشأة يتم بنائها في التاريخ، وأنبوب المياه الواصل بين الرياض والجبيل كأطول أنبوب لنقل المياه المحلاة في العالم (بمجموع أطوال بلغ 824 كلم)... ومن يومها، بدأت ألاحظ أن الأرقام السعودية ترتفع بشكل سنوي في الموسوعة حتى وصل عددها اليوم إلى 69 رقماً، (وكان يمكن لهذا الرقم أن يكون أكبر؛ لولا أن الموسوعة تزيل بشكل سنوي الأرقام التي يتم تحطيمها بأرقام جديدة)... ولأن المقال لا يتسع لاستعراضها كلها، سأركز حديثي على أكثر الأرقام حداثة.. وأعظمها أهمية .. فرغم وجود أرقام سعودية تتعلق بأكبر مقهى، وأكبر مجمع سكني متنقل، وأكبر مبلغ خيري يتم جمعه عبر الإنترنت؛ إلا أن ما يلفت الانتباه فعلاً هـي تسعة أرقام حديثة تتعلق بتحلية المياه المالحة.. الرقم الأبرز (والذي تنضوي تحته بقية الأرقام)، هـو تصنيف المؤسسة العامة لتحلية المياه كأكبر منتج للمياه العذبة في العالم (بأكثر من 11,5 مليون متر مكعب يومياً). وتحت هذا التصنيف تندرج أرقاما أخرى كثيرة مثل امتلاك السعودية لأكبر محطة تحلية في العالم، وأكبر محطة تحلية عائمة ــ ناهيك عن عنصر البروم والطاقة الكهربائية المصاحبة لهذه المحطات.. ولأن هذا الإنتاج الضخم يتطلب شبكة توزيع ضخمة؛ تملك السعودية أيضا أكبر شبكة لنقل المياه في العالم بمجموع أطوال يبلغ 14,217 كم. ووجود هـذه الشبكة (التي تـرتفع عاماً بعد عام) يعني أن السعودية تملك (بمعنى الكلمة) أنهارا جوفية يتجاوز طولها ضعفي نهر النيل الذي يمتد من بحيرة فيكتوريا إلى البحر المتوسط بطول يتجاوز 6 آلاف كم! ... ووجود هـذه الشبكة الضخمة يقودنا للحديث عن رقم قياسي آخر يتعلق بامتلاك السعودية لأكبر نظام نشط لنقل المياه العذبة عبر الأنابيب. فهذا النظام يقوم يومياً بنقل 10.5 مليون متر مكعب من المياه ضمن شبكة تتسع أصلاً لـــ19 مليون متر مكعب. وهذا الرقم ليس قياسياً فحسب، بــل ومذهـل (وصعب حتى على موسوعة جينيس تصديقه) كونه يوازي ضعفي نهر التايمز الذي يبلغ تدفقه 5.5 مليون متر مكعب يومياً.. وفي حين يجري نَـهـرّي التايمز والنيـل (وكافة أنهر العالم) مع جاذبية الأرض، تجري أنهار التحلية في السعودية بعكس الجاذبية الأرضية. فـمياه التحلية يـتم ضخها دائماً من المنسوب الأدنى (محطات التحلية على السواحل) إلى المنسوب الأعلى في الداخل (حيث الجبال والهضاب والمدن الداخلية). فأنابيب التحلية مثلاً تصل إلى أعلى نقطة في السعودية بارتفاع 3000 متر وبقـوة ضخ تبلغ 90 بــار (وهــي قـوة ضخ لـو وضعت بشكل عامودي تصنع نافورة تتجاوز برج خليفة بعشرة أمتار!!). ومن الأرقام الأخرى في موسوعة جينيس؛ امتلاك السعودية لأكبر خزان للمياه العذبة في مدينة الرياض. فهذا الخزان يتسع لــــ3 مليون متر مكعب، تـملأ 9 مليارات قـارورة مــاء سعة 330 مل (لــو تم توزيعها على سكان الرياض لــنال كل مواطن فيها 1000 عبوة على الأقــل)!! وكل هذه الأرقام تؤكد أن السعودية تملك بالفعل أنهارا جوفية أطول من النيل، وأضخم من التايمز، وأكثر استقراراً من أنهار طبيعية تفيض عاماً وتغيض أعواماً.. وبعكس بقية الأرقام في موسوعة جينيس؛ هذه الأرقام بالذات يصعب كسرها بسبب الجهود الحكومية الجبارة التي تقف خلفها، ووجودها دائماً في مقدمة اهتمامات الدولة. وكي نكون منصفين، تـقف خلف هـذه الأرقام تحديداً مؤسسة حكومية رائدة نعرفها كلنا باسم "المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة".. ولأن طبيعة عمل هذه المؤسسة يعتمد على الحلول المبتكرة، والتقنيات الرائدة، والأبحاث المستمرة، يصعب تصور تحطيم هذه الأرقام مستقبلاً (إلا من مؤسسة التحلية ذاتها)... أتشوق فعلا لمـعرفة أين سنصل في نسخة 2030.
مشاركة :