هناك أناس لا نعرفهم، ولم نلتق بهم يوما، ورغم ذلك ننجذب لهم هذا الانجذاب؛ لان أعمالهم وصلتنا، ولأنهم أحدثوا في الحياة فرقا واختلافا، نثروا فيما حولنا ذوقا وفنا وخدمة، منهم الطبيب المصري مجدي يعقوب، الذي كان له أثر كبير في جراحة القلب ومن ثم أسس مستشفى للقلب بمصر، ومنهم أيضا المهندس العراقي د. محمد مكية الذي كتبت عنه مقالا بعنوان (مهندس الجوامع). المهندسة العراقية (زها حديد) التي فقدناها قبل أقل من أسبوعين، هي من هؤلاء الناس الذين لا نلتقي بهم لكن أعمالهم وصيتهم حول العالم يحدثنا، وأعمال المهندسة (زها حديد) كبيرة وواضحة وشاهدة على قدرة هذه المهندسة ببعث عوالم خيالية من الصخر والحديد، هذه العوالم تبقى مؤكدة للإبداع والخيال الذي ينتقل من الفكر والورق وجهاز الحاسوب لعالم المحسوسات. (زها حديد) سبق أن كتبت عنها عندما فازت بجائزة الميدالية الذهبية الملكية البريطانية العام الماضي، عراقية ومشهود للعراقيين بالمعمار منذ آلاف السنين، وبقي بعضها شاهدا حتى الآن سواء في بابل حيث حدائق بابل المعلقة، أو في سامراء حيث الملوية والتي انتقل تصميمها للكثير من بلدان العالم، وأما مدينة الحضر في نينوى فهي شاهد رغم ما حدث للموصل من عثرات وتخريب. فازت مشروعات (زها حديد) بعدة جوائز وعلا صيتها وهي العراقية التي حملت الجنسية البريطانية، نتيجة الهجرة، من عائلة مثقفة وواعية، والدها أول وزير للاقتصاد في العهد الجمهوري، ويُحسب له أنه من ساعد في حفظ اقتصاد العراق من الانهيار بعد الملكية. صممت ونفذت محطة إطفاء الحريق في المانيا، ومتحف الفن الحديث في مدينة سينسينتي بأميركا، ومركز الفنون الحديثة في روما، وجسر الشيخ زايد في الإمارات المتحدة، ومحطة القطار في ستراسبورج، والمركز العلمي في ولسبورج. ولدينا في الرياض شاهد جميل على تصميمها وهو محطة مترو مركز الملك عبدالله المالي. هذا وغيره الكثير لهذه المرأة العراقية، التي تنتمي أسرتها للموصل المدينة الجميلة وذات الربيعين. ولا ندري ماذا فعل الزمان بها بعد الخراب والاحتلال؟ نجاح زها حديد، وتقدمها وتصاميمها التي بهرت العالم وسبحت في فضاء واسع، يجعلنا نعتقد جازمين أنه لا شيء يحد الفكر لا التقاطعات ولا الزوايا ولا الدوائر، والهندسة ليست فقط خطوطا ومواد أسمنتية وحديدا.. الهندسة أفق لا يحده شيء. أتذكر كتبت عن مهندساتنا اللواتي نحشرهن في التصميم المنزلي الداخلي بينما فضاء الله واسع وممكن أن تتولد لهن مساحات شاسعة من الفكر. ويرسمن وينفذن خارج المألوف لو أتيحت لهن فرص أوسع ومجالات أكبر، بلا قيد على أفكارهن. كيف يمكن أن نحكم بأن قيود التزمت تمنع العقل من الانطلاق، والفكر من الإبداع؟ نعم.. توفيت وذهبت لرحمة ربها (زها حديد)، ولكن غيرها من المهندسات والمهندسين العرب في الطريق لآفاق كبيرة وعالية وجذابة. قد تكون هي أول من سبح في آفاق الهندسة التي وضعت الخيال على الأرض ولكنها فتحت الطريق لمجال أكبر ولأفكار تتمدد وتكبر. رحم الله زها حديد، ورحم محمد مكية ورحم مجدي يعقوب الطبيب الذي لم يبخل بعلمه وماله، ورحم كل أولئك الذين جعلوا للإبداع فكرا وعنوانا.
مشاركة :