«الناس مكتئبون»، «محبطون»، «يائسون»، «بائسون»، ونعوت أخرى كثيرة يطلقها المصريون على أنفسهم وعلى من حولهم هذه الآونة. وعلى رغم أن أطباء النفس واختصاصيي علمي النفس والاجتماع طالما كتبوا وصرحوا وأفتوا بإصابة النسبة الأكبر من المصريين بأعراض الاكتئاب بدرجاته المختلفة على مدى العقود الأربعة الماضية، حتى فقد كثر الثقة في الاكتئاب ذاته. إلا أن أوضاع المصريين النفسية الحالية تشير إلى قناعة شعبية عارمة وعقيدة وطنية صارمة بأن ما جرى لهم وحلّ بهم منذ هبوب «رياح الربيع الشتوية» يفيد بتغيّر جلل وتحوّل هائل، والأهم مكاشفات صارخة ومواجهات استوجبت جهداً علمياً للتفسير وآخر عملياً للتوثيق وثالثاً أدبياً للسرد. يسرد أستاذ الطب النفسي واختصاصي العلاج بالسيكودراما الدكتور خليل فاضل رؤيته لما يجري للمصريين في كتاب صدر قبل أيام تحت عنوان «البوح العظيم»، راصداً غليان المصريين لسنوات وصلت أوجها بين عامي 2011 و2015، لتخبط «أمنا الغولة» على الباب فتخيف الكبار قبل الصغار، وذلك «بعد ما نشر الفساد والبيروقراطية العفن والتخلف والرداءة والاكتئاب والجنون والظلم». الفوضى والعشوائية حجبتا على الجوهرة الكامنة في شخصية المصريين، حيث ابتلعت فوضى العنف والسياسة والعلاقات الاجتماعية الإنسان والإنسانية، وهذا ما يتضح من سرد أجيال العقود الماضية رؤاها عما حلّ بالمصريين، وتفسير الدكتور فاضل هذه المجريات، والتي خلّفت أناساً لا يسألون عن الثورة ولا متى قامت. هم في حالة إلهاء شديد، حمّى الأسعار، عبوس شبه دائم، والثورة «مشيت، راحت، غارت مخلّفة مجموعة من الاضطرابات النفسية، بعضها غائر عميق مؤلم وبعضها الآخر صريح فاضح يتراوح بين كونه اكتئاباً حياتياً وذهاناً صريحاً». يلخّص فاضل الملامح الرئيسة للحالة النفسية - الاجتماعية للمصريين بعد «ثورة يناير» في نقاط عدة، أهمها الصدمة. فحدوث الثورة المفاجئ، على رغم معناه الإيجابي، وتطور الأمور بسرعة وتجاوزها أحلام البسطاء سبّب لهم صدمة. كذلك الحال بالنسبة إلى معارضي الثورة الذي أصيبوا كذلك بصدمة عدم الرغبة في التغيير. ومن الصدمة إلى الخوف لدى الجميع، ومنه إلى «الصامتين» وهم الغالبية من المعنيين والمعنيات بلقمة العيش والشعور بالأمان والخوف من التقلّبات. وعلى رغم أن الثورة خلّفت صورة إيجابية للذات لدى كثيرين، وأعادت روح الانتماء لدى الشباب، وزحزحت الإحباط من على عرشه بعد سنوات من ملكه، إلا أن حالة من «التوّحش الشعبي» أصبحت سمة في المجتمع، والتي يُخشى من استمرارها إذ قد تؤدّي إلى فوضى هائلة نتيجة سقوط معايير القانون والأدب والاحترام وتحطيم الثوابت الاجتماعية بدعوى الثورة والتغيير. ومع الرغبة في التغيير تتظّهر لائحة فريدة من الأمراض الجديدة للمصريين، أبرزها وفق فاضل «الوهن العصبي»، وهو الشعور الذاتي والمستمر بالإنهاك والضعف العام والإعياء والتعب المصحوب بأعراض عضوية متنوعة. «هي حالة صعبة تتمثل في الإرهاق والتعب وفقدان التركيز. ومهما نمت تصحو كأنك لم تنم، أو كأن أحدهم ضربك علقة». ويستطرد فاضل شارحاً الأعراض التي يشكو منها ملايين: آلام مبهمة تنتشر في عضلات الجسم والمفاصل، وتستمر المشكلة مسببة لصاحبها مشكلة صحية مزمنة، إنهاك ذهني وجسدي مستمر، وقد تمتد أعراضه إلى الجهاز الهضمي أو المناعة أو القلب والأوعية الدموية، ما يصيب صاحبه باكتئاب مرضي. وعلى رغم أن هذا المرض يصيب أربعة بالغين بين كل ألف شخص عالمياً، إلا أن نسب الإصابة به عربياً أعلى بكثير «نظراً إلى أننا كثقافة نفسية وصحية نعتمد على مفهوم الجسدينية أي إننا لا شعورياً نترجم مشكلاتنا وهمومنا إلى متاعب جسدية بحتة». وهل هناك متاعبة نفسية - جسدية أكثر من سيطرة فكرة الموت على كثيرين؟! يرى فاضل أن فكرة الموت الملحّة لم تعد مجرّد اضطراب الوسواس القهري، أو مكوّناً من مكونات الاكتئاب، بل إن «الموت في مصر بعد يناير 2011 صار معتمداً لدرجة إن المصريين فقدوا حساسيتهم تجاهه. أمسى علكة يلوكونها ترد في رسائل الأخبار على هواتفهم المحمولة، أو في شريط الأخبار المتلفز، أو على لسان المذيعين، أو في تصريحات وزارة الصحة أو الطب الشرعي أو في الشارع». ومن واقع خبراته في مجال العلاج النفسي، يقول فاضل إن بعض مرضاه عبّروا عن خوفهم من الانتحار خشية العواقب الدينية والاجتماعية لذويهم، إلا أنهم تمنوا في الوقت ذاته الموت ليتخلّصوا من الحياة وعذاباتها في مصر. ويمضي فاضل شارحاً مظاهر العنف وظواهره بشقيه المادي الممارس من قبل فئات عدة سواء الدولة أو المواطن، والبلطجة التي باتت سلوكاً أشبه بالثقافة المضادة يكون فيها الصراع هو العنصر الرئيس، والاغتصاب الجماعي الشكل الجديد من أشكال الجريمة في مصر والذي يفسره بإنه ليس فعلاً جنسياً بحتاً، بل استعراض قوة في مجتمع فيه مختلف أنواع الصراعات والتناقضات. وما دامت ذُكِرت كلمة «تناقضات» فلا بدّ من الإشارة إلى «المرأة» و»التديّن» في مصر. فكلاهما ترجمة مؤسفة لفكرة التناقض الذي يصل إلى حد النفاق والفصام. «القماشة الاجتماعية المصرية تحتوي خيوطاً وألواناً مركّبة ومعقّدة مليئة بالعورات والصراعات والأمور العصية على الفهم. وهي في حركة مستمرة وشديدة الارتباك تتضافر مع أمور عدة كالانفتاح التكنولوجي، ومع فقر الوعي والبصيرة وانعدامهما». فقد تبدّل دورا الرجل والمرأة في الريف والحضر وتغيّرا، واتخذا أشكالاً جديدة في العشوائيات. وعلى رغم أن تركيبة الإنسان في العالم حالياً تهيئه لأن يكون متساوياً قدر الإمكان، لكن المرأة في الشرق تتخذ وضعاً قهرياً بائساً، ومن ثم خُلِق لنا مجتمع بائس منزعج متحفّظ يجعله أكثر هشاشة، ويجعل المرأة أكثر عرضة للانتهاك. ويرى فاضل إن التقدّم العلمي والحضاري لأي مجتمع لا بدّ أن يتقدّم إنسانياً وأخلاقياً واجتماعياً، وهذا عكس ما حدث في مصر في السنوات العشر الماضية. وفي سياق متصل، تجدر الإضاءة على تحوّلات «الدين والتديّن» في مصر، وهو عنوان الفصل الأبرز في كتاب «البوح العظيم»، حيث يشار إلى دور الطبقة المتوسطة في تشكيل الوعي الديني للمصريين في العقود الأربعة الأخيرة. ويوضح فاضل أن «التديين» من «التفعيل، التزييف، التضخيم، التهويل» وهي عملية منزوعة الطهارة والخشوع. تمت من خلال إنتاج الرسائل الإعلامية، وتأليف الكتب الدينية التي اشترك فيها أساتذة جامعات وأئمة مساجد ودعاة جدد ومدرّسون في مراحل التعليم قبل الجامعي. وكل تفصيل صغير من تفاصيل الحياة في الشارع والبيت المصري، ينضح بمظهر من مظاهر التديّن التي اجتاحت المجتمع على مدار ثلاثة عقود مضت وحتى عام 2010. فمن أداء مناسك الحج والعمرة مرات عدة، إلى الاستماع إلى أشرطة دينية يغلب عليها الصراخ والعنف، وزيادة عدد القنوات الفضائية الدينية في شكل لا سابق له. في المقابل، فإن أنماط السلوك اليومية أبعد ما تكون عن الدين أو التديّن. فقد زاد العنف الفردي والجماعي، والرشوة والفساد والتحايل على الناس في غذائهم ودوائهم، إضافة إلى تقلّص مساحة تقبل الآخر (المسيحي). ومن التديّن المزيف إلى التعليم المزيّف، وأبرز مظاهره الدروس الخصوصية التي تشكل شوكة في حلق كل بيت. ويصف فاضل الوضع المزري حيث مدرّسون انعدمت ضمائرهم يدفعون الآباء والتلامذة دفعاً للحصول على هذه الدروس، من خلال إهمال الشرح في الفصل أو تهديد الأولاد بامتحانات آخر السنة. «وقد سرى هذا الوباء لدرجة يمكن تشبيهه بالمخدرات فكلاهما يتشاركان في خراب البيوت والبلاد، وإن كانت الدروس تفوق المخدرات أثراً لأنها تستهلك نحو 43 في المئة من دخل الأسرة. وساهمت في تدمير المجتمع والقيم والأخلاق». يقع الكتاب في 390 صفحة، ويتميّز بالسرد الشيّق والتشريح الواضح الصريح لما جرى للمصريين وحلّ بهم. أما العلاجات والحلول فتظل قيد البحث والتحليل والتنقيب.
مشاركة :