مارسيل خليفة: يحزنني عالم يكتب سيرته بالحروب

  • 4/8/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

سلام عليك أيها العائد علي بساط الريح متسائلاً: من أين أدخل الوطن؟ على الحدود تطل علينا عصفوراً من خلف شبابيك الحرية، وقد خلعت عن ريشاتك الخوف بكل ما يحمل من معنى. تمشي منتصب القامة مرفوع الهامة، لا تحمل في كفك سوى غصن زيتون لتداعب به عودك الرنان الشجي في الكف الآخر. يطير الحمام معك هائماً تحت أغاني المطر عازفاً كونشيرتو الأندلس في حلم ليلة صيف، داعياً الله أن ينجينا من الآتي. سلام عليك يا من تحن لخبز أمك وقهوتها ولمستها وإذا مت تخجل من دمعها، تفي بوعودك للعاصفة متحدياً وحدك ركوة العرب فلا تملك سوى صوتك مطالباً شُدوا الهمة. الفنان مارسيل خليفة أيقونة الحرية عند الشعوب العربية.. ورمز من رموز النضال الفلسطيني، استطاع أن يتخطى بصوته حدود الجغرافيا والجنسيات مع توأم روحه الشاعر الراحل محمود درويش. مارسيل خليفة يغني اليوم على أرض الشارقة، عاصمة الثقافة الإسلامية والسياحة والصحافة العربية التي تؤكد لنا يوماً بعد آخر أنها ملكة متوجة على عرش التنوير في العالم العربي. في مسرح المجاز الذي يعد أحد أهم صروح الإمارة ومنبرها الثقافي التقت الخليج الفنان مارسيل خليفة فكان الحوار معه أشبه بنص كتبه بقلبه. طوال الطريق إلى مسرح المجاز كان يطاردني صوت فلسطيني خرج تواً من سجون القمع الإسرائيلي، الذي حادثته هاتفياً ليقول لي: كنا كلما ضاقت الدنيا بنا يتسرب إلى آذاننا صوت أحدنا يتمتم بأغنية مارسيل خليفة منتصب القامة أمشي، وما هي إلا لحظات حتى تهز جدران السجن بوتيرة متصاعدة. كنا ولا زلنا نستمد منها القوة والفخر وتتعالى بيننا الضحكات بينما ننظر إلى سجانينا وقد اعتلاهم الهلع ودبت فيهم روح الرعب، لقد عاش مارسيل بيننا وبداخل كل ما فينا، ناضل معنا على كل الجبهات، تعلمنا منه النضال منذ طفولتنا بأغنية يا معلمتي اجا الذيب مروراً بـالطفل والطيارة ووقوفني على الحدود. في مسرح المجاز، بدأ اللقاء مع فارس النضال بالصوت والعود مارسيل خليفة بمؤتمر صحفي، استقبل الرجل بعديد من الأسئلة المُغلفة بالكثير من الحفاوة. وبدا هو هادئاً بملامحه التي ارتسمت عليها ابتسامة لم تغادره حتى اللحظة الأخيرة من المؤتمر الذي حضره طارق النقبي، مدير مركز الشارقة الإعلامي. فاجأني، كما فاجأ الجميع، عندما استأذنا في قراءة بعض مما سهر على كتابته. عندما تستمع إليه وهو يلقي ما كتب بخط يده تدرك تماماً أنك أمام رجل يختلف بكل المقاييس، فهو سياسي ومناضل بدرجة فنان. أجاب مارسيل خليفة على أول التساؤلات عن رؤيته للمنطقة العربية في زمن الحروب والمؤامرات والدماء المنسابة بقراءة: ما سهر ليلته الأولى في عاصمة الثقافة الإسلامية على كتابته: أشعر بأننا نُفينا إلى هذا الكوكب برفقة الماء والهواء والتراب والنار، ولعل الوحدة هي الحل. أتذكر عندما كنت طفلاً وكان الصفاء يغمر الأرض والماء والسماء، كنت وقتها أجمع أولاد الحي وأعطيهم البدء بإشارة الغناء ليغني كل على ليلاه، يحزنني هذا العالم مع سيرته المكتوبة بالحروب. مصلوب هذا العالم لم يبق جناح أو سنبلة، أواجه الطفل الذي كنته وتركته هناك لأجد الشوك أطول مني، وها أنا أنثر الحب على بلاد راحلة. يصمت مارسيل خليفة لأقرأ الدموع في عينيه، وألمح ابتسامة استطاع أن يرسمها بجدارة، ليخفي تلك الدمعة التي كانت على وشك الانهمار ثم يعود منادياً مناجياً الوطن: يا وطني الذي أعرف الطريق إليك، ولا أعرفك حين تصبح الحياة بمعناها الغريزي البسيط هي الهم، هنا فقط يبدو الكلام عن الموسيقى والأغنية والقصيدة والحب شأناً صغيراً عندما نعيش في بلاد لا نعرف فيها غير الدماء والقتل لنستنشق رائحة الخوف والموت، ولكن لابد أن نحلم بعالم أفضل وبقليل من الأكسجين طالما أن الشمس ما زالت تسقط على البحر، ومازال القمر معلقاً فوق الجبال. يصمت لبرهة ثم يتساءل هادئاً: أيتها العاصفة هل للعصافير ركن تحت الأشجار؟ هل من مكان اليوم بعد للموسيقى وللأغنية والشعر ؟ وماذا يهمنا بعد عشرات ألوف القتلى والجرحى والمهجرين ؟ هل من مكان للجمال؟ ويجيب: نعم الشمس ستعيد إلينا الحب والكرامة والحرية، حتماً ستذكرنا أن الشعر هو العالم، سوف تعيدنا إلى الحياة لننتصر على الموت والحرب والوحشية والإبادة الروحية والجسدية. أنهى مارسيل خليفة كلمته التي كانت كفيلة بأن تُسكتنا جميعاً، مرت لحظات قاسية من انتظاري لانتهاء فعاليات المؤتمر الصحفي لأظفر منه بإجابات إلى أسئلتي الخاصة. قلت له: كلماتك أجابت عليَّ أهم سؤال يرتبط بما تمر به منطقتنا العربية، ولكنني فهمت أنك ترى أن الحب هو الحل، قاطعني قائلاً: الحب كالشعر.. صعب يتطلب الموهبة والمكابدة والصوغ الماهر، وكما يقول الراحل محمود درويش، لا يكفي أن تحب، بل عليك أن تعرف كيف تحب، فليبحث كل منا عن الحب كعاصفة بداخلنا لنتعرف إليه من جديد، ونصعد من خلاله إلى أعالي النشوة لنواصل طريقنا دون مقايضة على النتيجة، سواء كانت بالربح أو بالخسارة، علينا أن نقول: يا إلهي نحن نحب. * محطات الرحيل في حياتك كثيرة وموجعة أبدأ بها معك من آخر الراحلينتوأم الروحالشاعر محمود درويش رجوعاً إلى أولهم الأم والجد. هل لي أن أتعرف على ملامح هذه المحطات؟ يفترق العشاق ليبقى الحب، تجربتي مع درويش كانت مميزة ومختلفة، ولكن لا يمكنني تجاهل الكثيرين ممن تعاملت معهم. منتصب القامة أمشي للراحل سميح القاسم، وتعاملت مع الكثير من الشعراء الآخرين مثل خليل حاوي وعز الدين المناصرة وحسن العبد الله وقاسم حداد، لكن تظل علاقتي بدرويش علاقة حميمية من الطراز الأول. أتذكر عندما تخرجت في معهد الموسيقى كنت شاباً صغيراً في قريتي شمالي بيروت، وكنت ولا زلت مع القضية الفلسطينية، ولاختلاف ميولي السياسي مع المنطقة التي كنت أعيش فيها حُبست في بيتي لفترة طويلة ولم يكن معي سوى دواوين محمود درويش وصرت ألحن أشعاره كنوع من التسلية، ولم أكن أعرف أن هذه التجربة ستصل إلى ما وصلت إليه من نجاح. وسجلت هذه الأغنيات وصارت مثل الخبز اليومي عند الناس، وانتشرت وتعرفت على محمود بعد سنوات من صدور الأسطوانة الأولى. التقينا في بيروت وكان نبيلاً عندما قال لي مازحاً: كيف لحنت كل هذه القصائد دون علمي؟ وكنت أظن أنها ملكية عامة، وتوطدت صداقتنا لتمتد طوال الحياة؟. وعلى مسرح المجاز أقدم اليومأندلس الحب، وهو عمل ضخم لدرويش كتبه عام 1984، هو عمل ينطق بالحب، وأتذكر أنه كتب لي على القصيدة إهداء يقولإلى توأم قلبي الفني مارسيل خليفة، ولم ألحنها من وقتها، وقبل أن يرحل بسنوات كان دائماً ما يذكرني بها، ولكنني مع الأسف لم ألحنها في حياته، وهذا سر ألمي لأنه لم يسمعها، ولكنني اليوم سأغنيها على مسرح المجاز. يصمت مارسيل خليفة ويعاود الحديث مختنقاً بالدموع:عندما وصل جثمانه من هيوستن إلى عمّان كنت في انتظاره وألقيت مقطعاً منها، وكان ذلك قاسياً جداً، قصيدة أندلس الحب هي علاقة وفاء مع درويش لأن خسارتي له ليست مهنية إنما شخصية وإنسانية، لقد خسرت الكثير برحيله. * لا زالت الأوجاع تفرض نفسها، ولا زلت أنا في انتظار البوح بأقسى مناطق الألم في حياتك، ما هي؟ موت أمي من أكثر المناطق إيلاماً في ذاكرتي، قاومتُ غيابها الصاعق، حيث كان ينبت من بين يديها الحبق والريحان، كانت ولا زالت وستظل الحياة. * على مسرح المجاز هل نسمع جديدك اليوم ؟ أحاول تقديم الجديد من وقت لآخر، وأعتقد أن الشارقة سيشهد مسرحها الجديد اليوم، وما أود قوله إن الموسيقى هويتي الوجودية والإنسانية، أصغي إلى نفسي وإلى العالم بطريقة أكثر صفاء، وأنتبه إلى عملي وأقيم في صمتي لأكتب. في الموسيقى يتحوّل الأسى إلى عصفور والغضب إلى بسمة والقبح إلى وردة من أجل الحرية في الحياة. * لا يمكن لي أن أختم حواري معك دون أن أسألك عن الحبيبة فلسطين؟ فلسطين في القلب وسأظل أغني من أجلها، ومن أجل حرية شعبها دوماً، ذلك الشعب الذي وصفه الراحل سميح القاسم بمنتصب القامة ومرفوع الهامة يمشي، واليوم سأغنيها، وسوف أقدم الكثير، وبالتأكيد أحن إلى خبز أمي ستكون في المقدمة على مسرح المجاز.

مشاركة :