إميل أمين يكتب: عن عالم من الحروب المغايرة

  • 9/8/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

عن دار آفاق في القاهرة، صدر مؤخرا عمل موسوعي كبير ومثير، وقد جاء تحت عنوان “شبه حرب.. تسليح وسائل التواصل الإجتماعي”، والذي يتناول واحدة من أهم، بل ربما أخطر الظواهر التي عرفها عالمنا المعاصر في العقود الثلاثة المنصرمة، ظاهرة وسائل التواصل الإجتماعي، وكيف أنها باتت تشكل إتجاهات الرأي العام في غالبية إن لم يكن كل دول العالم، وإلى الحد الذي قيل معه إنها أضحت قادرة على أن  تصنع صيفا أو شتاء، وأن تطلق سيلا من الأكاذيب والأخبار المزورة، أو تذيع حقائق تغير من وجه العالم. الكتاب من تأليف، بي دابليو سينجر، المحلل الاستراتيجي في مؤسسة نيو أمريكا، وإيمرسون تي بروكينج، الكاتب المقيم في واشنطن والخبير في العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والصراعات، وقد عمل مستشارا في حرب المعلومات لمجلس الأمن القومي وهيئة الأركان المشتركة ومجتمع المخابرات الأمريكية. ما قصة هذا العمل، وكيف ظهر للوجود في نحو ستمائة صفحة  من القطع الكبير، وعبر ما يشبه عشرة فصول مركزية لقضايا ملتهبة آنية؟ على مدى خمس سنوات، درس مؤلفا الكتاب ما تفعله وسائل التواصل الاجتماعي في السياسة والأخبار والحروب في جميع أنحاء العالم. تتبع المؤلفان عشرات الصراعات في كل ركن من أركان المسكونة، التي حدثت على أرض الواقع وكذلك على شبكة الإنترنت، سافرا إلى الخارج للقاء عملاء حكوميين أجانب، وجلسا في مكاتب شركات التواصل الاجتماعي المعروفة، وكذا في مختبراتها السرية المظلمة، حيث تصنع معارك المستقبل.. ومن هنا كانت البداية. في مقدمة الكتاب، يلفت المؤلفان الانتباه إلى أمر مهم للغاية، وقد يكون مفتاح لغز تلك الوسائل العصرانية، وتحكمها في البشرية، فقد صمم المهندسون المسؤولون عنها منصاتهم بحيث تحفز المستخدمين على إدمانها. يطلق الدماغ دفقات صغيرة من الدوبامين حين ينشر المستخدم  شيئا ويتلقى ردود فعل من الآخرين عليه، ما يسجن الدماغ داخل دائرة من المنشورات والاعجابات والمشاركات وإعادة التغريد. وبحسب صفحات الكتاب يصف علماء الاجتماع الرقمي كيف تخلق وسائل التواصل الاجتماعي واقعا جديدا لم يعد نظريا أو افتراضيا فحسب، فيه بوسع الخلافات الإلكترونية أن تتسبب في   كوارث حقيقية مثلهامثل المشاجرات وجها لوجه. على أن الاختلاف في الفضاء الإلكتروني يختلف عن العالم الواقعي في أن الجميع يراقبك فيه، والكل ينتظر منك ما إذا  كنت ستقبل التحدي أم لا. تحدث هذه الظاهرة على المستويات كافة ولا تقتصر أبدا على  عمليات القتل. إن ثمانين في المائة من المعارك التي تندلع في مدارس شيكاغو يُحرض عليها عبر شبكة الإنترنت. يسرت تلك الشبكات مثل تويتر تواصل البشر حول الكرة الأرضية، لكن التساؤل هل جعلت العالم أكثر أمنا وسلاما؟ الثابت أن جميع المقاتلين اليوم – من أقوى دول العالم في الحروب إلى أضعفها – قد حولوا وسائل التواصل الاجتماعي إلى سلاح في حروبهم الوطنية والشخصية، والتي تتقاطع في أغلب الأحايين. إنهم جميعا يقاتلون بهدف تطويع  بيئة المعلومات العالمية لإراداتهم. من هنا تحولت  شبكة الإنترنت، والتي كانت ذات يوم مكانا لطيفا مبهجا للتواصل، إلى النظام العصبي للتجارة الحديثة، بل وأصبحت ساحة قتال يتم فيها تسليح المعلومات نفسها. أما بالنسبة إلى المتفائلين من مخترعي شبكة الإنترنت والمدافعين الشرسين عنها، المتأكدين من قدرتها على إحلال السلام والتفاهم، هذا دواء مر يجب عليهم ابتلاعه. اعترف إيفان ويليامز، وهو أحد مؤسسي تويتر، بقوله : “اعتقدت أنه بمجرد أن يتمكن الجميع من التحدث بحرية وتبادل المعلومات والأفكار، سيصبح العالم مكانا أفضل تلقائيا، لكني كنت مخطئا في هذا”. لكن هذا هو الوضع القائم. مثلما أعادت شبكة الإنترنت صياغة شكل الحرب، تعمل الحرب الآن على إعادة صياغة شكل شبكة الإنترنت وبصورة جذرية. ما الذي فعلته شبكة الإنترنت في مقدرات الحياة المعاصرة،  وعبر أذرعها المختلفة من فيس بوك، تويتر، إنستغرام، وما شابه  من نوازل جديدة سوف تطفو على السطح حكما عما قريب؟ يقدم المؤلفان مقاربة من خمسة أركان باتت تشكل عالمنا المعاصر، يمكننا أن نشير إليها في غير اختصار مخل : أولا: أصبحت الشبكة الوسيلة البارزة للاتصال والتجارة  والسياسة العالميين. لقد منحت سلطة قوية لقادة ومجموعات جدد، وكذا نظاما مؤسسيا جديدا يعمل باستمرار على توسيع نطاق هذه السلطة. ثانيا: باتت الشبكة ساحة قتال، لا غنى عنها للجيوش والحكومات والنشطاء والجواسيس والجنود. كلهم يستخدمونها  لشن حروب غير محددة  بحدود واضحة. والنتيجة هي أن كل معركة تبدو الآن شخصية، وكل صراع يظهر في الوقت  الحاضر عالميا. ثالثا: غيرت ساحة المعركة الجديدة من طرق خوض النزاعات. أحالت وسائل التواصل الاجتماعي فكرة الاحتفاظ بالأسرار إلى أحد المستحيلات، بغض النظر عن العواقب. لكن نظرا لأن الشائعات يمكن أن تطغي على الحقيقة، يمكن إعادة  صياغة المعلومات، حتى المعروف منها بالفعل، وبالتالي، فإن السلطة في ساحة المعركة هنا لا تقاس بالقوة البدنية أو المعدات ذات التقنية العالية، بل بالقدرة على جذب الانتباه. والنتيجة هي تسابق الجميع على التلاعب النفسي والخوارزمي، في سلسلة  لا نهاية لها من الأحداث وفيروسية الانتشار. رابعا: غيرت هذه المعركة معنى “الحرب”. إن الفوز في هذه المعارك الإلكترونية لا يمكنك من الفوز في العالم الإلكتروني الافتراضي فحسب، بل في العالم الواقعي كذلك. كل انتصار سريع الزوال يقود الأحداث على أرض الواقع، بدءا بنزاعات المشاهير غير المنطقية وانتهاء بالانتخابات التي تغير مجرى التاريخ. تصبح هذه النتائج أساس المعركة الحتمية القادمة  لنشر الحقيقة على  شبكة الإنترنت، ما يزيد من ضبابية  التمييز بين التصرفات في العالمين المادي والرقمي، والنتيجة  هي بدء “الحرب” و”السياسة” في الاندماج معا على شبكة الإنترنت، فتطبعان نفس القواعد وتوجدان ضمن نفس النطاق. خامسا وأخيرا: نحن جميعا جزء من هذه الحرب، حين تتصل  بشبكة الإنترنت يصبح انتباهك أشبه بقطعة أرض متنازع عليها، حيث تتصارع جهات لا تنتهي عليها، قد تعلم بوجودها  أو لا تعلم. كل ما تشاهده، أو تبدي إعجابك به، أو تشاركه على  وسائل التواصل يضيف معلومة جديدة إلى ساحة قتال المعلومات، ويرجح كفة أحد الجوانب على الأخرى. وبالتالي، فإن انتباهك وتصرفاتك على شبكة الإنترنت هي أهداف وذخائر معا في سلسلة لا تنتهي من المناوشات، وسواء تبالي بحروب النقرات أم لا تؤكد أن هذه الحروب نفسها تبالي بك. هل من خلاصة؟ قطعا يصعب على المرء الإحاطة بستمائة صفحة في هذا المسطح المتاح للكتابة، غير أن هناك حقيقة مؤكدة وهي أن الإنترنت، كجوهر لوسائط التواصل، لم يعد مجرد شبكة، بل نظام بيئي يضم ما يقرب من أربعة مليارات شخص، لكل منهم أفكاره وتطلعاته، وكل منهم قادر على ترك أثر صغير من نفسه في العالم الرقمي الواسع. إنهم ليسوا أهدافا لحرب معلومات واحدة بل لآلاف وربما الملايين من تلك الحروب. أما من فائدة ترجي من تلك الوسائط المعاصرة؟ بلى، ذلك أن الذين يستطيعون السيطرة على هذه التقلبات والتعامل معها بمهارة، سيحققون منافع جمة. سيتمكنون من تحرير الناس، وكشف الجرائم، وإنقاذ الأرواح، وتحقيق إصلاحات بعيدة المدى، حتى وإن كانت نفس الصلاحيات تمكن الكثيرين من إحداث شرور بشعة، إذ يمكنهم إثارة العنف، وإذكاء نيران الكراهية، وزرع الأكاذيب، والتحريض على  الحروب، بل وحتى تقويض ركائز الديمقراطية نفسها. هنا يبقى البشر أنفسهم هم الفيصل، وخياراتهم من يحدد مستقبل تلك الوسائط. هل من أمر تجاوز صفحات الكتاب؟ المؤكد أن الحديث عن عالم الميتافيرس، يدخلنا في دائرة  أخرى وحديث آخر عما قريب بإذن الله.

مشاركة :