أنَّا نحن جند الله فى أرضه خلقنا من سخطه وسلطنا على من حل به غضبه، فلكم بجميع الأمصار معتبر وعن عزمنا مزدجر فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم، فنحن ما نرحم من بكى ولا نرق لمن اشتكى فتحنا، البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، فعليكم بالهرب وعلينا بالطلب، فما لكم من سيوفنا خلاص ولا من أيدينا مناص، فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق، وقلوبنا كالجبال، وعديدنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن رب السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان، فلا تطيلوا الخطاب وأسرعوا برد الجواب قبل أن تضرم الحرب نارها، وتورى شرارها، فلا تجدون منا جاها ولا عزا، ولا كتابا ولا حرزا، إذ أزتكم رماحنا أزا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، وعلى عروشها خاوية، فقد أنصفناكم إذ أرسلنا إليكم ومننا برسلنا عليكم. هذه رسالة هولاكو الى قطز سلطان مصر بعد تدميره بغداد وبعد اجتياحه الشام. عندما وصلت تلك الرسالة للسلطان كانت بمثابة إعلان الحرب على مصر، فجمع الأمراء والقادة والمستشارين وقال لهم إنى ما قصدت من اعتلاء عرش مصر إلا أن نجتمع على قتال التتار، فوافق الجميع وبدأت الاستعدادات لمواجهة التتار رغم أن البلاد كانت تعانى مشكلات اقتصادية صعبة نتيجة الصراع الطويل مع الصليبيين وما يستلزم ذلك من نزيف لمصادر مصر. إضافة الى ذلك كانت هناك اضطرابات داخلية وفتن ناجمة عن الصراع الداخلى على السلطة، وكانت المنطقة كلها ساحة لصراع القوى العظمى الثلاث فى العالم حينها. كانت القوى الأولى متمثلة فى مصر صاحبة الأرض والمتبقية لمواجهة الصليبيين والتتار المغيرين على الأراضى العربية والمصرية. كان الأمر عصيبا ومستحيلا أمام القيادة المصرية لدرجة أن البعض اقترح على السلطان أن يستسلم وألا يغامر بقتال التتار لأنهم لا يهزمون كما كان شائعا حينها، غير أن السلطان رفض ذلك وقرر ملاقاتهم، وكان اتخاذ القرار فى العشر الأواخر من رمضان سنة 658 من الهجرة، وقد كان بلغته الأخبار بما فعله التتار بالشام ونهبهم البلاد كلها حتى وصلوا الى غزة وقد عزموا على دخول الديار المصرية وبادرهم قبل أن يبادروه وبرز إليهم وأقدم عليهم قبل أن يقدموا عليه، فخرج بالعساكر المصرية فكان اجتماعهم على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان سنة 658 هجرية. فاقتتلوا قتالا عظيما شديدا وكان النصر حاسما وكانت هزيمة التتار هائلة، ومدوية وقتل قائدهم وجماعة من بنيه وأتبعهم الجيش المصرى يقتلونهم فى كل موضع، واتبع بيبرس التتار يقتلهم فى كل مكان الى أن وصلوا خلفهم الى حلب وهرب من بدمشق منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان فتبعهم المصريون والسوريون من دمشق يقتلون فيهم ويستفكون الأسارى من أيديهم. نجت مصر والعالم والحضارة وتحررت الشام بذلك النصر ولو كانت الهزيمة لمصر لتكررت مصيبة بغداد وما فعله التتار بها والشام كما وصف ابن كثير: «لما دخلت سنة ست وخمسين وستمائة وفيها أخذ التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها، وانقضت دولة بنى العباس منها. نصب التتار المجانيق وغيرها من آلات الممانعة التى لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وأحاطوا بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب، وكان قدوم هولاكو بجنوده كلها وكانوا نحو مائتى ألف مقاتل، وكانت جيوش بغداد فى غاية القلة ونهاية الذلة لا يبلغون عشرة آلاف فارس ونهبت بغداد، وقتل التتار جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان ودخل كثير من الناس فى الآبار وأماكن الحشوش وقنى الوسخ، وكان الجماعة من الناس يجتمعون الى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم الى أعالى الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى جرت الدماء فى الأزقة وكذلك فى المساجد والجوامع والربط، وعادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس وهم فى خوف وجوع وذلة وقلة. وقد اختلف الناس فى كمية من قتل ببغداد فى هذه الوقعة، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف وكان دخولهم بغداد فى أواخر المحرم واستمرت عملية القتل أربعين يوما وقتل الخليفة المستعصم وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد،ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل وأسر ولده الأصغر مبارك، وأسرت أخواته الثلاث وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر وقتل الشيخ أبى الفرج ابن الجوزى وقتل أولاده الثلاثة كما قتل أكابر الدولة وأكابر البلد، وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به الى المقابر فيذبح كما تذبح الشاه ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه. كما قتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن وتعطلت المدارس والمساجد ببغداد وبقيت بغداد خاوية على عروشها والقتلى فى الطرقات كأنها التلول، وقد سقط المطر عليهم فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى فى الهواء الى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون. ولما نودى ببغداد بالأمان خرج الناس من تحت الأرض كأنهم الموتى إذ نبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضا فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا ولحقوا بمن سبقهم من القتلى».
مشاركة :