قراءة في السيرة الروائية «ريح الحشائش والنفط»..

  • 4/8/2024
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

عندما تكون الحياة بين بينين، بين وادٍ جنوبي ووادٍ نجدي، بين بيت حجر وبيت طين، بين لهجة الكشكشة ولهجة الكسكسة، بين حقول زراعية وحقول نفطية، وبينيات كثيرة غير ما ذكر، ويظهر عمل يضم هذه البينيات ويفلسفها ويوصفها ويحكي تفاصيلها وطبيعة حياة أهلها وفق روح كل منها، ويتبنى هذا العمل لب الفكرة نفسها فيكون عملاً، لا هو رواية، ولا هو سيرة ذاتية، ويختار هذه البينية (سيرة روائية) لتتوافق مع لب الفكرة وروحها وفلسفتها، ويأخذنا في جدية سيرية وانسايبية وتخييل روائي محكم، ولغة ناضجة المفردة وسلسة العبارة وبارعة في الوصف ورسم المشاهد والصور، فهنا يمكن القول إننا أمام عمل جدير بقراءة فاحصة وشاملة، وبما أن هذا لا يمكن إلا من خلال بحث مطول ومكانه على صفحات إحدى المجلات المحكمة، فإن هذا لا يعفينا من مسؤولية عرض سريع لهذا العمل المتقن، وقراءته قراءة نقدية انطباعية أو مقالية تلخيصية. والعمل المقصود بالمقدمة السابقة أحد إصدارات الدار العربية للعلوم ناشرون في طبعته الأولى للعام 2022م، وجاء تحت عنوان «ريح الحشائش والنفط. حكاية جيل في سيرة روائية» للكاتب فهد الأحمري. جاءت عتبة العمل الأولى ممثلة في غلافه الذي أعطى صورة أفقية وعمودية للفكرة، وأوجد دلالات رمزية من خلال العناصر الموجودة على هذه العتبة الأولى، فحقول الحشائش تحيل إلى منطقة الأصل والمنشأ، والطفل والطفلة، والحيوانات، وحقول النفط جاءت لتكون أحد أقواس العمل فالقوس الأول تمثل في الحقول الزراعية، والقوس الثاني تجسد في حقول النفط، لنكون بين تجسيد تصويري لفكرة العمل ومحدداته التحولية بين حياة بسيطة وحياة متشابكة متطورة، ومسيرة حياة الطفل «تاهم» الذي تولى الراوي العليم سرد قصته، وقصة التحولات التي أخذته إليها الحياة، وتنقلاته الفكرية التي كان أكثرها من باب المصادفة البحتة. «تاهم» بطل العمل سيكون تتبع مسيرة حياته مزيج بين الخيال وبين الواقع، ولسنا بحاجة إلى الفصل بينهما –أي الخيال والواقع- لنستمتع بهذا العمل والغوص في تفاصيل حقوله، فالمتعة تبلغ ذروتها عندما نقرأ هذا العمل بعيون محلقة وكأنها طائر يرى المشهد من علو فيستوعبه بكافة أبعاده أو بعيون طائرة درون تعطينا المشهد ذاته لنكون مندمجين مع فلسفة العمل، فنصبح بين بينين حياة بسيطة يمثل الطائر عينها المحلقة، وحياة متطورة تمثل طائرة الدرون عيونها الكاشفة والموثقة للمشهد ذاته. «تاهم» الذي سُمي على اسم المعالج اليماني وهو من ينتمي إلى من يسمون السادة في فترة من فترات القرية التي ينتمي لها «تاهم»، والمعالج هذا هو من أبدى رغبته بعد أن عالج بعض أفراد القرية في أن يسمى باسمه من يسلم من أطفال القرية وينجو من الموت بسبب الوباء المنتشر، واعتذر المعالج تاهم عن قبول أي مكافأة أخرى، وكان «تاهم» بطل هذا العمل أحد الناجين وأحد المسمين باسم المعالج. يرتحل «تاهم» من جنوب الوطن إلى شماله أو كما يقال في العرف اللغوي عند «تاهم» وجماعته إلى الشام بمعنى شمال المنطقة أي كان هذا الشمال، وليكون وادي الدواسر ومنطقة السليل بالتحديد هي محطة تاهم الأول برفقة أسرته الذين انتقلوا مع والدهم العسكري إلى حيث مقر عمله. انتقال أول لتاهم تتغير معه طبيعة الحياة والبيئة والرفاق، ولكن تظل الأعراف والشيم والمعروف بين الناس هو السمة المشتركة مع التغير من الكشكشة إلى الكسكسة، أما القيم فلم يتغير من جذورها الممتدة في وجدان وروح العربي السعودي شيء، وإن اختلفت شكلياتها ومظهرها الخارجي. ريح الحشائش والنفط، عمل جسد حكاية جيل في سيرة روائية، وأجاد الكاتب في هندسة العمل بما يتفق مع مقولة أحد العلماء «الأدباء مهندسو أرواح الشعوب». عمل بهذا المستوى الفني والمقدرة اللغوية يجعلنا نعيد قراءة كثير من مقاطعه وصياغاته وأبنيته، ونعيش حالات التخييل التي تفنن في عرضها الكاتب دون تكلف ودون عسف أو حشو روائي أو سيري. ظلت كلمة يجب أن تقال عن الغلاف؛ إذا كان المؤلف كتب العمل بتمكن مدهش، فقد أحسنت المصممة جيهان اليامي في اختزال العمل في (صورة) عبرت عن العمل بشكل مذهل.

مشاركة :