أزمة الصحافة اللبنانية... أبعاد متعددة لمشكلة في العقلية

  • 4/11/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

اتخذت الأزمة التي تضرب المؤسسات الصحافية اللبنانية منحى تصاعدياً في الأيام الأخيرة انعكس في إعلان إدارات ثلاث من أعرق الصحف، عن اتجاهها إلى وقف الطبعة الورقية، والاستمرار إلكترونياً بعد صرف العدد الأكبر من العاملين. بل إن إحدى تلك الإدارات ذهبت إلى حد القول أنها تنوي وقف الصحيفة كلياً عن الصدور، بفعل شح الموارد، ثم تراجعت عن قرارها. أضف إلى ذلك أن أكثر من مؤسسة صحافية، مطبوعة وتلفزيونية، لا تدفع رواتب موظفيها في شكل منتظم منذ أشهر. والواقع أن الأزمة ليست حديثة تماماً، بل بدأت ملامحها قبل فترة وتجسدت في صرف عدد من العاملين، وفي تحرك للمسؤولين عن القنوات التلفزيونية لإيجاد سبل تمويل، من ضمنها إمكان استيفاء جزء من الأموال التي يحصلها موزعو الكايبل المحليون. وبصرف النظر عما ستؤول إليه هذه الأزمة، فإن أي معالجة لها تستدعي فهمها أولاً. والأكيد أنها متعددة البعد وستترك آثاراً عميقة في المشهد الإعلامي اللبناني.   بُعد عابر للحدود والبعد الأول للأزمة ذو طابع عابر للحدود يرتبط بالتغييرات البنيوية التي يشهدها القطاع الإعلامي برمته، في ضوء التطور المستمر والمتسارع لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وللأجهزة والشبكات. منذ تسعينات القرن الماضي، بدأت الأبحاث والهيئات المهنية تنبّه المؤسسات الصحافية إلى أن التغيير الآتي مع تطور تكنولوجيا الأجهزة والشبكات يفرض عليها استباقه، بإتخاذ إجراءات واعتماد تغييرات في طريقة عملها ونمط تعاطيها مع الجمهور. وكانت المؤسسات ذاتها بدأت تتلمس التغيير الذي يطاول عملها. والأمثلة على ذلك لا تكاد تحصى: تحول العمل إلى الكومبيوتر، من التحرير إلى التوزيع مروراً بالإخراج والتنفيذ والطبع؛ اختفاء العمل اليدوي والورق من دورة العمل ومعه مهنة الأوفيس بوي وخطاط العناوين والمنضدد... المصور أيضاً تغيرت طبيعة مهنته، بفضل التصوير الرقمي الذي أنهى أكثر من قرن من التحميض والتظهير. وقس على ذلك. هذا التطور البنيوي يذكّر إلى حد ما بالتحولات الهيكلية الكبرى التي شهدتها البشرية: الانتقال من ما قبل الزراعة اليها، ومنها إلى العصر الصناعي، ومن هذا إلى عصر الإعلام. وهي تحولات أفرزت تغييرات كبيرة في حياة المجتمعات وفي طبيعة العمل وطرق ممارسته. ثمة مهن اختفت وظهرت أخرى، فيما تطورت عادات جديدة وبنى جديدة، الخ. ولا ينجو في مثل هذه الحالات إلا من يستبق، بالتركيز على وعيه بميدان اختصاصه. من كانت مهنته زراعة القمح مثلاً في العصر الزراعي، ستبقى كذلك في العصر الصناعي، لكن الأدوات ستتغير. إذا اعتقد أن اختصاصه استخدام الدواب في الزراعة، فسينتهي بالإفلاس، فيما إذا اعتمد الجرّار كأداة، يحافظ على مهنته، بل تزداد ازدهاراً في العصر الجديد. وقياساً على ذلك، في ميدان الإعلام، من لم ينس أن مهنته هي الصحافة وليس هذا الناقل أو ذاك، سيعرف كيف يتأقلم مع معطيات العصر الجديد. في هذا السياق، يجب وضع التغييرات التي اعتمدتها مؤسسات صحافية كثيرة في العالم منذ بضع سنوات. من الصين إلى أميركا، ومن أوستراليا إلى شمال أوروبا، كثرة من المؤسسات أوقفت الطبعات الورقية واستمرت إلكترونياً. هذا لا يعني أن الورق اختفى أو سيختفي فوراً، بل إن ثمة مطبوعات ورقية صدرت حديثاً، لكن ذلك نتج من دراسة سوق مركزة لا مجال للخوض في تفاصيلها هنا. والتغييرات البنيوية العابرة للحدود لا تطاول الصحف المطبوعة فقط، بل أيضاً التلفزيون، وإن كانت مهلة التأقلم أطول قليلاً ربما. من يراقب المشهد على هذا الصعيد يعرف أن الشبكات تغيّر في أنماط المشاهدة وتفرض على المؤسسات منذ الآن الاستباق والتأقلم معها. ولعل ظهور الـ «ريبلاي» على مواقع كثير من القنوات مثلاً، يشكل واحداً من الشواهد على ذلك التغير. وهل السينما مثلاً بمعزل عن التغيير؟ لماذا أصبح عرض الأفلام بالتقينة الثلاثية البعد شائعاً في الصالات؟ ثم، في صورة عامة، ماذا يعني انتشار خدمات مؤسسات على غرار «نتفليكس» عالمياً؟ كل ذلك ليس سوى أمثلة بسيطة عن التحولات الحاصلة والتي تجبر المؤسسات العاملة على التأقلم معها.   ... وآخر إقليمي ولأزمة الإعلام في لبنان بعد إقليمي بدأ مع الطفرة التي شهدها الإعلام الخليجي الملكية ابتداء من العقد الأخير من الألفية الثانية، وتجذّر مع فترة ما سمي بالربيع العربي لتصبح مفاعيله لبنانياً أكثر وضوحاً. وللتذكير فإن بداية تسعينات القرن العشرين شهدت انطلاقة أول فضائية عربية بمبادرة خليجية (سعودية تحديداً، وليست لبنانية كما كان يحدث مع التجديد من قبل)، فيما كان التمويل الخليجي يعطي دفعاً للإعلام العربي المطبوع جاعلاً إياه عابراً للحدود عبر جريدتي «الشرق الأوسط» و «الحياة»، وفي حين كانت وسائل الإعلام الخليجية الوطنية، على اختلاف أنواعها، تشهد تحديثاً متسارعاً. حينها بدأ التمويل الخليجي للإعلام يغير وجهته من الخارج، ومنه تحديداً لبنان، إلى الداخل. وهذا التغيير في الوجهة ليس جديداً كلياً، إذ خبره اللبنانيون في ميادين أخرى، باعتبار أن بلدهم، الذي لعب دور المصرف والمستشفى والمصيف... للخليج قبل الحرب الأهلية (1975)، توقف عن لعب هذا الدور، فيما راح الخليج يبني مؤسساته وإمكاناته في كل الميادين. لم ينتبه اللبنانيون الغارقون في حربهم إلى هذا التغيير البنيوي أيضاً، والذي سينسحب على الإعلام في فترة لاحقة. وجاءت ثورات الربيع العربي، مع ما رافقها من انقسامات وعنف، ومع تراجع أسعار النفط في المرحلة الأخيرة، لتضع نهاية للتمويل العربي عموماً للإعلام اللبناني. ذلك أن زوال أنظمة كانت تدعم هذا الإعلام تقليدياً، كنظام القذافي في ليبيا مثلاً، وتبدّل أولويات التمويل الخارجي لدى أنظمة أخرى، أديّا، معطوفين على استقطاب الإعلام الوطني الخليجي للاستثمارات، إلى جفاف منابع الدعم لوسائل الإعلام اللبنانية.   ... وثالث داخلي البعد الثالث للأزمة، داخلي ومتشعب هو أيضاً. ولعل العنصر الأول فيه هو «براعة» اللبنانيين في تضييع الفرص منذ عام 2000 بصورة إجمالية، مع تحرير جنوب البلد من الاحتلال الإسرائيلي. وبدلاً من التحول إلى تحصين بلدهم وجعله واحة آمنة ومقدّم خدمات متنوعة كما كانت حاله قبل الحرب الأهلية، فتحوه على كل تداعيات الأزمات الخارجية البعيدة والقريبة، بفعل نجاح الطبقة الحاكمة والقوى المؤثرة في جعل الدولة، والنصوص المؤطرة لها، الحلقة الأضعف عبر ممارسات لا مجال لحصرها هنا. وعلى سبيل المثل، وعلى قاعدة رب ضارة نافعة، منحت اعتداءات أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك وواشنطن لبنان فرصة استرداد دور «موفّر خدمات» التعليم والصحة والمصرف والترفيه للمنطقة العربية، لكنه لم يقتنصها. وجاء اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، ليضع البلد على مسار تقهقري، بل تحللي، لا يزال مستمراً إلى الآن، على رغم بعض النقاط الإيجابية ومنها نجاة قطاعه المصرفي من الأزمة المالية العالمية 2007 – 2008. ومعروف أن وضعاً كهذا يؤدي إلى هشاشة اقتصادية عامة تؤدي إلى انكماش الاستثمار في ميادين كالإعلام والإعلان تعتبر هامشية حين الأزمات. وفي الوقت ذاته، بدأت أولويات التمويل المحلي للإعلام تتبدل أيضاً. بعض الأحزاب والمؤسسات وحتى الأفراد، الذين كانوا يوفرون دعماً مالياً بأشكال مختلفة للصحافة، قرر إنشاء مؤسساته الإعلامية الخاصة، وبالتالي حوّل تمويله إليها، أو إلى ميادين أخرى. ومن العناصر التي عززت أزمة الصحافة اللبنانية في بعدها المحلي، أن المؤسسات الصحافية اللبنانية، كما قسم كبير من الصحافة العربية، تعتمد في استمرارها على الدعم المالي وليس على الانتشار والإعلان. وبفعل هذه الطبيعة، لم تستطع هذه الصحافة بناء محتوى فعال يضمن للمؤسسة انتشاراً جماهيرياً يوفر المال من البيع والإعلانات. أضف إلى ذلك أن المؤسسات الصحافية اللبنانية، وخصوصاً المطبوعة، عائلية الطابع، تحتل فيها مصالح العائلة الأولوية؛ وعلى ذلك، فإن استمرارها مرهون بالدعم المالي وليس بالعائد. لكل ذلك بالتأكيد، ستقدّم إدارات الصحف للرأي العام قرار التخلي المحتمل عن الطبعات الورقية لمصلحة النشر الالكتروني على أنه نقمة وليس نعمة، مع أن العكس هو الصحيح منطقياً. ذلك أن الورق، فضلاً عن كون استهلاكه مضراً بالبيئة، مرتفع الكلفة مقارنة بالناقل الإلكتروني، فيما آفاق هذا الأخير أرحب بكثير من آفاق الورق، لجهة التوزيع تحديداً. وإذا كان الورق بالكاد يوصل المادة الصحافية إلى مناطق لبنانية تبعد مائة كلم عن مقر الصحيفة، فإن الناقل الإلكتروني يوصلها إلى أقصى بقاع الأرض، حيث الانتشار اللبناني الكبير الذي يتغنى به اللبنانيون ويسعون إلى جذبه وإشراكه في العمليات الانتخابية الداخلية. أي أنه يوفر جمهوراً كامناً يعد بالملايين، بالمقارنة بجمهور لا يكاد يبلغ الألف أحياناً للناقل الورقي. أضف إلى ذلك أن الالكتروني يمنح الصحيفة إمكان منافسة الوكالة والتلفزيون والإذاعة في الوقت ذاته. وكل ما يقال ما عدا ذلك عن حنين إلى الورق ورائحته... هو بمثابة جهل أو تجاهل لتحولات آتية لا محالة ولا نعيش سوى بدايتها، لمصلحة عاطفيات لا تقدم ولا تؤخر في الواقع؛ كمن يحن إلى استخدام الدواب في المواصلات، فيما يُعمل الآن على سيارات تتمتع بسائق آلي! من كانت مهنته الصحافة، لا يُفترض أن يعيقه تبدل الناقل، وحده المحتوى المحترف والفعال الذي يضمن الاستمرار.   الحل... أما حل الأزمة فمتاح ومتعدد أيضاً ويبدأ من فهم أننا دخلنا عصر الإعلام والاتصال الذي يدر بلايين الدولارات، وأن الاستمرار فيه يتطلب تطوير عقلية المؤسسات. ولن يتبلور الحل قبل أن يتذكّر أصحاب المؤسسات المحلية أن فكرة برنامج واحد قد تدر أموالاً تعادل سنيناً من دعم الممولين؛ وهذا يتطلب الانتهاء من فكرة أن الاستثمار في البحث والتطوير غير منتج، وأن شراء الأفكار الجاهزة من الخارج ييسّر ربحاً أسرع. ولا يضر التأكيد في سياق استشراف آفاق الحل، ان انتظاره من الدولة سيكون كما انتظار قطار مسرحية المحطة للرحابنة، إذ كيف يمكنها ابتداع حل وهي لم تنجح في توفير الكهرباء في شكل مســـتمر، وتــــترك مثلاً قــطاعاً مهماً كتوزيع الكايبل لقباضايات الأحياء وحماتهم، فيما يمكنها استثماره في شكل مربح لها وللمؤسسات والجمهور على السواء؟     * أستاذ في الجامعة اللبنانية – كلية الإعلام

مشاركة :