في تاريخ النهضة العربية الحديثة صفحة ملتبسة طويت على عجل، ولم تنل حقها من البحث والاهتمام، هي صفحة «شوام مصر»، أعني الأدباء والكتّاب والشعراء والباحثين والفنانين الذين ينحدرون من بلاد الشام، وبخاصة من لبنان، الذين هاجروا إلى مصر ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر، وبلغ عطاؤهم الأدبي والفكري ذروته في النصف الأول من القرن العشرين. هذه الصفحة كان من حق المصريين قبل سواهم أن يهتموا بها وأن يشبعوها درساً نظراً لأن مصر «مصّرت» عملياً هؤلاء الشوام، وجعلت نتاجهم جزءاً لا يتجزأ من نتاجها الثقافي، فصحيح أن "جرجي زيدان" -على سبيل المثال- شامي أو لبناني الأصل، ولكن مجلة «الهلال» التي انشأها في مصر، والمستمرة في الصدور إلى اليوم، مجلة مصرية لا لبنانية ولا شامية، وكذلك كتبه وأبحاثه، فهي مما أصدرته المطبعة المصرية ويعتبر مما أنتجته الحركة الأدبية المصرية، ويمكن أن يقال نفس الشيء عن تراث "فرح أنطون" و"شبلي الشهيل" و"يعقوب صروف" و"عبدالرحمن الكواكبي" و"مي زيادة" و"خليل مطران" وسواهم ممن هاجروا إلى مصر وأقاموا فيها وأبدعوا ما أبدعوا حتى توفوا، فهؤلاء بنظرنا مصريون حصل أكثرهم، أو كلّهم، على الجنسية المصرية، تماماً كما حصل عليها أدباء ومثقفون عرب كثيرون وبخاصة من الشمال الافريقي مثل "بيرم التونسي"، وهو تونسي الأصل كما يتبين من اسمه، والمطربة "ليلى مراد"، وهي من أصول مغربية. هذه الصفحة الشامية المصرية منسية، أو مطوية، في الأدبيات المصرية الحديثة، فلا يؤتي على ذكرها إلا عرضاً، أو بالصدفة، ولا ينظر إليها النظرة العلمية الباردة لتقييمها، أو لتقييم أثرها في الأدب والفكر والثقافة المصرية والعربية المعاصرة، إنها صفحة مسكوت عنها عن عمد وكأنها تمس شيئاً ما في الوجدان المصري أو تسيء إليه، مع أنها صفحة ذات شأن لا ينكره أحد في تطور الأدب العربي وتحديثه، وكذلك في تطور الصحافة في مصر، بل في تطور الفنون جميعها كالموسيقى والغناء والتمثيل والمسرح، بل إن من الصعب، أو من المستحيل، التأريخ لكل هذه الفنون دون دراستها الدراسة المعمقة، ولكنها مع الأسف صفحة ما أن تفتح، وحتى عرضاً، حتى تطوى بسرعة، وكأنها تتضمن فضيحة من الفصائح، أو أن فيها ريبة ما يستحسن طيها وتجاوزها إلى سواها! ويبدو أن الباحثين المصريين، وهم المعنيون بنظرنا بهذه الصفحة المصرية-الشامية، قبل سواهم، لا يحبونها، وبصراحة، لأكثر من سبب، فهي بنظرهم صفحة مرتبطة بشكل أو بآخر بتاريخ الاستعمار البريطاني لبلدهم، قسم كبير من هؤلاء الشوام كانوا من النصارى، وقد تعاون بعضهم مع المستعمر الانكليزي سواء في الترجمة أو الصحافة أو غير ذلك، ولكنهم لم يكونوا كلهم من النصارى، فقسم لا يستهان به منهم كان على غير النصرانية، كالشيخ "رشيد رضا" صاحب «المنار» و"عبدالرحمن الكواكبي" صاحب «مصارع الاستبداد»، و"الرافعي" الأديب المشهور، وهؤلاء وغيرهم ناضلوا مع المصريين وبضراوة ضد المحتل لبلادهم، ثم إن كل ذلك بات من التاريخ الآن ويحسن دراسته دراسة موضوعية لمعرفة ما جرى وما بقي. ويبدو أن هناك أسباباً أخرى، غير ما ذكرنا، جعلت هذه الصفحة صفحة غير مرغوب فيها مصرياً، منها أنها تشعر المصريين بأن روّاد النهضة المصرية والعربية لم يكونوا مصريين بل كانوا عرباً وافدين إلى مصر، وهذا الشعور بنظرنا في غير محله لأن العنصر المصري بين هؤلاء الرواد لم يكن قليلاً أو ضعيف الأثر والتأثير، فالرواد المصريون كانوا موجودين وفعّالين، تماماً كالروّاد الشوام والمغاربة الوافدين، اندمج الجميع في مشروع فكري وثقافي وتنويري ونهضوي كان في أساس ما نسميه اليوم بمشروع النهضة العربية، ومع الوقت لم يعد هناك «شوام» بل «مصريون» من أصول شامية أو غير شامية، وقد فقد هؤلاء الشوام مع الوقت صِلاتهم بالقطر الذي وفدوا منه إلى مصر، واقتصرت صلتهم به على الحنين أو ما يشبه الحنين، أما حصادهم فكان لمصر دون سواها، فهم مصريون من أصول أجنبية. قد يكون قسم من هؤلاء الشوام روّج لثقافة وافدة مع المستعمر، أو عمل حتى في خدمته، ولكنه قدم بالمقابل إنجازات لمصر وللثقافة العربية لا يمكن إنكارها، المهم فتح هذه الصفحة بلا انحياز مسبق ضدها، أو معها، وجعلها هي تدافع عن نفسها إنصافاً لها وتمشياً مع ما يحصل في المحاكم عادة، وعلينا ألا ننسى أن هناك من المثقفين المصريين أنفسهم، من تعاون في تلك المرحلة مع المحتل الأجنبي وخدم ثقافته ونشر فكره وكل هذا يوجب الانتصار للبراءة عند النظر، وبالتالي عدم الإدانة إلا عند تقديم الدليل.
مشاركة :