عندما انطلقت الثورات الطالبية، و «الشبابية» في شكل عام، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ الحديث جدياً عمّا سمي حينذاك «صراع الأجيال»، وعن الذهنيات الجديدة الناتجة من استشراء الحداثة التي تتبناها الأجيال الصاعدة في مقابل جمودية الأجيال القديمة وأسلوبها المحافظ في العيش والتعبير. وفي الوقت نفسه، وفي زحام الأفكار اليسارية والفوضوية والتطرف، عاد إلى الحياة مفهوم كان وُضع في الثلاجة منذ زمن بعيد، وهو مفهوم «العدمية» NIHILISME، الذي كان بعض النهضويين العرب، حين استخدمه، استخدمه منقولاً من العربية في صيغته اللاتينية ذاتها «نيهيلي». إذاً، انطلق المفهومان في وقت واحد تماماً، وأحياناً مترابطين، حيث جرى الاعتبار أن أبناء الجيل الجديد المتمردين حين يرون أن صراع الأجيال لا يميل لصالحهم، يتحولون إلى العدمية كموقف يائس ومتمرد من مسيرة العالم. > والملفت في هذا كله هنا، هو أن «صراع الأجيال» و «العدمية» معاً، كانا وجدا خير تعبير عنهما، بل حتى ولادتهما الحقيقية، قبل ذلك بأكثر من قرن من الزمن، وتحديداً على يد كاتب روسي واحد هو إيفان تورغنيف، في روايته الأشهر «آباء وأبناء»، هذه الرواية التي ترجمت إلى العدد الأكبر من اللغات. وإن كانت الرواية تبدو اليوم منسية بعض الشيء، فإننا لا بد أن نذكر أنها أثارت حين صدرت، وطوال عقود تالية من السنين، قدراً كبيراً من السجالات. خصوصاً أن تورغنيف، الكاتب المشاكس، لم يقف فيها تماماً كما كان يمكن أن يُتوقع منه، إلى جانب أبناء الجيل الجديد في صراعهم مع الأجيال السابقة، بل رمى نحوهم سهام نقده الحادة، واقفاً -بشكل أو بآخر- إلى جانب الأكبر سناً... ولو لمجرد رفضة تصرفات الشبان «الرعناء». والحال أن هذا الجانب في الرواية هو الذي نوقش دائماً ورُفض من البعض فيما قبل من البعض الآخر، بحيث إن هذا كله غطى على أمور أخرى في الرواية كانت حافلة بالتجديدات وضروب الحداثة، ومنها قدرة الكاتب على سبر أغوار النفس البشرية لدى شخصياته الرئيسة، وجعل الأبعاد السيكولوجية جزءاً أساساً من فن السرد الروائي، حيث إن التصرفات والأفعال وردود الأفعال تأتي في الرواية مستجيبة للبعد النفسي للشخصيات، ما جعل «آباء وأبناء» رواية «جوّانية» - وفق تعبيرات القرن العشرين-، قبل أن يولد تيار الوعي والأدب السيكولوجي بزمن. بل إننا إذا شئنا الدقة، يمكننا أن نقول إن هذا هو المهم -أصلاً- في الرواية. أما حبكتها، فقد تبدو لنا اليوم غير ذات بال... وربما أيضاً تبسيطية في أحداثها، وخالية من أي مفاجآت.. إذ إن سيرورة الرواية وما يؤدي إليه كل فصل فيها، يبدوان مستقري السياق خطيّين، وفي بعض الأحيان مضجرين. > نشر تورغنيف «آباء وأبناء» في العام 1862، أي خلال حقبة من الزمن كانت الرواية الروسية تعيش ذروة ازدهارها، وفي حقبة كانت الصراعات الاجتماعية مستشرية، وروسيا -مجتمعاً ومثقفين- تبحث عن دروب جديدة وقد راحت الأفكار الثورية -الاجتماعية والسياسية - الآتية من غرب جرى الانفتاح عليه حديثا، تغزوها. ومن المؤكد أن هذا الظرف بالذات هو الذي ساهم في خلق السجال الفكري حول الرواية، رامياً قيمها الفنية إلى الصف الثاني من الاهتمام. > تدور أحداث «آباء وأبناء» في الزمن الراهن المعاصر لتورغنيف، من حول طالبين جامعيين هما بازاروف وكيرسانوف يعودان إلى مسقط رأسيهما القروي بعد غياب ثلاثة أعوام. وقبل الوصول إلى مقصدهما النهائي يتوقفان فترة لدى أهل آركادي، حيث يستقبلهما والد هذا الأخير، وهو كهل خجول يعيش مرتبكاً وضائعاً بين غرام يستبد به وبين المشكلات التي تسببها له مزرعته منذ تم إلغاء الرق وبات يجد صعوبة في الحصول على يد عاملة رخيصة تعينه في أعماله الزراعية. وإلى جانب هذا الأب يعيش شقيق له هو «العم»، الذي سبق أن عمل ضابطاً في الحرس لكنه اضطر إلى ترك الخدمة إثر مأساة عاطفية عاشها، واتجه ليعيش متقاعداً في الريف. هنا، في هذا المكان، وبعد استقبال طيّب خُصَّ به الشابان، بدأ الصراع يعنف بين هذين وبين الكهلين، خصوصاً أن بازاروف (يفغيني) جاء محملاً بالأفكار المتمردة والوقحة التي تميّز الشبان الجدد في المدن. والحال أن الصراع لا ينجم فقط عما يقوله أو يفعله أركادي ويفغيني، بل كذلك عن أسلوبهما العدواني في التعبير عن مواقفهما، وهو أسلوب يبدو من التجذر والعفوية بحيث يكشف كم أنه صار يشكل طبيعة مترسخة لدى الشابين، ويثير حفيظة الكهلين اللذين يبدوان في كل لحظة متمسكين بالقيم والعادات، ولاسيما ما يطاول الأخلاق منها. والأدهى من هذا أن يفغيني خصوصاً، يريد تطبيق «أخلاقه» الجيدة على كل شيء، بما في ذلك على علاقته مع المرأة، إذ إنه يقول ويكرر إن العلاقة مع المرأة يجب أن تتبع القاعدة التالية: «إذا وجدت أن امرأة ما تناسبك، حاول أن تصل إلى هدفك معها، فإذا رفضت ما عليك سوى أن تتوجه بمحاولاتك نفسها إلى أي امرأة أخرى... ذلك أن في الأرض متسعاً لذلك». والحقيقة أنه إذا كان يفغيني بازاروف قد بدا ناجحاً في صراعه مع الكهلين، ولاحقاً مع بقية ممثلي الأجيال القديمة، فإن هزيمته سوف تكون في مجال «فلسفته» النسائية هذه. ذلك أن الشابين بعدما يبارحان عزبة والد كيرسانوف، يتوجهان إلى عاصمة الإقليم. وهناك خلال حفلة راقصة يشاركان فيها، يتعرف يفغيني إلى الشابة الحسناء آنا أودنتسوفا، ويلقي من حولها شباكه وهو متمسك «بمبادئه المعهودة»... لكن آنا لا تستجيب له. ويدرك ذات لحظة أنه يحبها حقاً. أما هي، فإنها في الحقيقة تهتم به لكنها لا تستسيغ أسلوبه ولا أفكاره، لذلك تتركه وهي آسفة بعض الشيء. أما هو فأسفه يبدو كبيراً، من ناحية بسبب هيامه بها، ولكن من ناحية ثانية لأنه أدرك في سرعة، أن هذا الوجد كان كفيلاً بتحطيم كل أفكاره ومبادئه وفلسفته. وهكذا يغرق في صراعه الداخلي ويفقد أي إحساس بجدوى الحياة. وهو في هذه اللحظة بالذات يعيش ذلك التناقض الكبير بين «عدمية» كان يبديها «كفرد لا ينحني أمام أي سلطة ولا يقبل أي مبدأ من دون تفحصه بدقة» (وكان هذا هو تعريف صديقه آركادي له كعدمي)، وبين عدمية وجودية حقيقية يعيشها الآن محطماً، بسبب رفض آنا إياه.. وهو إذ يعود إثر تلك الخيبة إلى دار أهله في قريته، يعيش محطماً لا غاية له من الحياة ولا رغبة لديه في الكلام. ولا يجد أمامه إلا أن ينصرف إلى تجاربه العلمية لعلها تعيد إليه مذاق الحياة بعض الشيء. وهنا، فيما كان يعتني بمريض أصيب بالسل، يحدث له أن يجرح إصبعه ويهمل الاعتناء به، فيصاب بالمرض، وهذا المرض يستشري لديه حتى نهايته التي سنلاحظ كيف انه يستنكف حتى عن مقاومتها. > عندما كتب إيفان سيرغييفيتش تورغنيف (1818- 1883) روايته «آباء وأبناء» كان في الرابعة والأربعين من عمره، أي أنه كان على الحافة تماماً بين الجيلين اللذين عبّر عنهما في روايته، هو الذي كان خلال شبابه القريب منتمياً، حتى الأعماق، إلى الأفكار والمبادئ التي وسم بها بطليه الشابين، ولاسيما يفغيني بازاروف (الذي رأى فيه الكثيرون صورة ذاتية كاريكاتورية وقاسية، رسمها تورغنيف لنفسه، غير أنه هو لطالما نفى هذا، مستعيداً لمن يحب ان يسمع، صورة لشبابه أكثر رصانة وأقل عدمية). وبشكل عام، عُرِّف أدب تورغنيف، الروائي أو المسرحي، بأنه كان شديد الاهتمام بحاضر بلاده ومستقبلها خلال فترة التغيرات الهائلة التي عاشتها. وهو كان ابناً لضابط متقاعد في سلاح الخيالة ولد في قرية بمنطقة في جبال الأورال، لكنه مات في إحدى ضواحي مدينة باريس، بعد أن عاش خلال السنوات الأخيرة من حياته متنقلاً بين ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، التي اختار أن يقيم فيها نهائياً خلال السنوات الأخيرة تلك، واستُقبل فيها بكرم من قبل أدباء من طبقة جورج صاند وغوستاف فلوبير والأخوين غونكور، هو الذي لم يتمكن من التفاعل حقاً مع الحياة الأدبية الروسية، واشتهرت «خناقاته» وسجالاته مع تولستوي ودوستويفسكي فيها. ولكن لئن كانت الحياة الأدبية الروسية لم تستسغ تورغنيف وأسلوبه الثوري الساخر في التعامل مع الأمور الجادة، فإن القراء الروس تابعوه جيداً وقرأوا بإعجاب أعماله الكبرى، مثل «آباء وأبناء» و «عش النبلاء» و «شهر في الريف» و «رودين» وغيرها.
مشاركة :