كثيرًا ما يثار التساؤل في كثير من المجتمعات الإنسانية المعاصرة. هل الفرد مقدم على المجتمع أم أن المجتمع مقدم على الفرد؟ حيث تتبنى الولايات المتحدة الأمريكية ومعها دول الغرب الصناعي نظرية تقديم الفرد على المجتمع من منطلق ليبرالي جعل للفرد السيادة والأولوية على المجتمع، فجوهر الليبرالية يقوم بالتركيز على الفرد كأيدلوجيا تقوم مرتكزاتها على الحرية والفردانية، معتبرة الفرد غاية بذاته وليس امتدادًا لإرادة الجماعة. في حين أن الصين، وبعض بقية العالم تتبنى نظرية تقديم المجتمع على الفرد، معتبرة قيم المجتمع مقدمة على قيم الفرد وترجع في هذا تاريخيًا إلى تعاليم كونفوشيوس وإلى منظومة القيم والتقاليد الاجتماعية الصينية العريقة. ففي عرف الثقافة المجتمعية الصينية أن الفرد أساس المجتمع. إلا أن النظرية الاجتماعية الغربية ترى أن الفردانية تمثل الأساس الفلسفي للفكر الليبرالي. فقد قامت الليبرالية على تطوير مفهوم الفرد عما كان عليه في الحقبة الإقطاعية التي سادت في أوروبا، فقد كانت البنية الاجتماعية آنذاك تتمثل في تقاليد الأسرة والمجتمع المحلي والطبقة الاجتماعية، وكانت هوية الفرد تتحدد من خلال تلك المنظومة العائلية والمجتمعية، فعندما انهار النظام الإقطاعي الأوربي واجه الفرد خيارات وأولويات اجتماعية أتاحت له فرصة التفكير في الذات بشكل فردي وأعيد صياغة العلاقة ما بين الفرد والمجتمع لصالح الفرد. ومع بداية عصر النهضة بدأ التركيز على الفرد وأعطي الحرية الكاملة في تحديد أولوياته وخياراته واحتياجاته خارج إطار المجتمع فأصبح مقدمًا على المجتمع. عندها نشأ ما يسمى بالمذهب الفردي والذي هو عبارة عن مذهب فكري اجتماعي يقوم على اعتبار الفرد المتحكم والمهيمن على المجتمع وله السيادة الكاملة، وتعود عوامل ظهور المذهب الفردي في الغرب إلى الثورة الصناعية والتي أحدثت تغييرًا جذريًا كاملًا في النظام الاجتماعي الغربي وإلى تحالف الرأسمالية العالمية مع الليبرالية الغربية في تقويض أركان المجتمع الغربي ونشر وعولمة الفردانية. ومن هذا المنطلق تعتبر الفردانية إحدى مكونات الفكر الليبرالي ومنطلقات الرأسمالية العالمية. لقد أحدث عصر النهضة تغييرات في البنية الاجتماعية الغربية، تمثلت في إلغاء وصاية المجتمع على الفرد، والذي كان سائدًا في مرحلة ما قبل الحداثة الأوروبية والانتقال به تدريجيًا إلى الفردانية. فالمفكر إيريك فروم يرى أن عصر النهضة قوض أركان النظام الاجتماعي التقليدي الغربي، الذي كان سائدًا في العصور الوسطى، وجاء على إثره بالفردانية. ورغم أن هذا الكلام ليس هو التوجه الغالب في المجتمعات العربية، ولم يأخذ بعد مكانه في الثقافة المجتمعية العربية. فمفهوم الفردانية والمجتمع لا يزال موضع تعارض ما بين الثقافتين الغربية والشرقية، فدلالة الطابع الفردي للأجناس تختلف باختلاف البيئات الثقافية والاجتماعية. ففي البيئة الغربية تسود الفردانية بشكل مطلق، بينما تسمح البيئة الشرقية بتقييم خيارات الفرد من النواحي التي تهم المجتمع. حيث إن الثقافات الشرقية ترى أن المجتمع مقدم على الفرد، انطلاقًا من أن حاجات الفرد يجب أن تخضع لحاجات المجتمع. وإذا كانت المجتمعات الغربية تقدم الفرد على المجتمع، وذلك بعد أن أخذت الليبرالية على عاتقها تطوير مفهوم الفرد بعد تداعي النظام الاجتماعي التقليدي، وذلك عن طريق تقوية مركز الفرد في المجتمع. ولذلك يسعى الليبراليون الجدد، أن يتبنى العالم قيم الغرب الليبرالية، ويعتبر مفهوم الفردانية إحدى تلك القيم في محاولة لتعميم النموذج الاجتماعي الغربي على المجتمعات الأخرى بوسائل سياسية واقتصادية وثقافية وتقنية. فالمجتمعات العربية اليوم تشهد تحولًا تدريجيًا نحو الفردانية، إلا أن الروابط لا تزال قوية بين الفرد والمجتمع، وهذا الترابط الذي يُنظر إليه على أنه واجب ديني واجتماعي لا يحظى بهذه النظرة نفسها في المجتمعات الغربية، بل ينظر إليه كعقبة تحول دون الاستمتاع بالحياة. ولذلك فإن مفهوم الجماعة أو ربع المفاهيم غير واردة في المفهوم الغربي الحديث في حين أنها مفاهيم ثابتة في الثقافة العربية. وعلى افتراض أن الشاب العربي الذي يتبنى الفردانية يريد أن يمارس حقه كما هو الحال في المجتمعات الغربية فإن نجاح هذا الشاب في تمثل الفردانية يعتمد على المدى الذي وصل إليه في الاستقلالية والتوافق الشخصي والذي يبدأ بالخصائص الشخصية ويتعداها إلى النظرة إلى الحياة والفلسفة الاجتماعية والنظام القيمي والخلفية الثقافية. فقد تتحقق الفردانية عندما يتبنى الفرد خصائصها ويتخذها ثقافة له ويسعى عمليًا في إحداث تحول لتبديل شخصيته.. وهي في الواقع عملية مرحلية ذات أشواط متعاقبة والأفراد الذين يستطيعون أن يمضوا فيها إلى نهايتها قليلون.. وقد يكون التمثل للفردانية لأسباب عملية وأخرى موضوعية ومعظم الراغبين في تمثل الفردانية يكتفون بدرجة محدودة بسبب الإبقاء على بعض خصائصهم الاجتماعية أو إلى الحد الذي يخدم مصالحهم الشخصية والعملية مع المجتمع. ينظر د. جون جراي - أستاذ الفكر الأوربي بجامعة أكسفورد - إلى الفردانية باعتبارها البنية الأساسية للفلسفة الليبرالية ويصعب تصور الليبرالية من دونها.. لذلك سعت الليبرالية إلى تطوير مفهوم الفرد بما كان سائدًا عليه النظام الاجتماعي في أوروبا حيث كانت البنية الاجتماعية تمثل مكونات المجتمع وكانت هوية الفرد تتحدد بحسب علاقته بالمجتمع.. إلا أن الليبرالية وبتحفيز من الرأسمالية العالمية تبنت نظرية الفرد لأسباب اقتصادية يكون فيها كل فرد قادرًا على تنمية قدراته وتطلعاته باعتبار أن الفرد مقياس الحياة الاجتماعية. وقد آمن المذهب الليبرالي بالفردية بوصفها مركز بنائه الفكري فالفرد هو الأساس وواجب المجتمع حماية استقلاله لتحقيق ذاته، فالفرد وفقًا للمفهوم الليبرالي يشكل القاعدة التي يقوم عليها المجتمع ما يعني أن الفرد لبنة البناء الاجتماعي، وأنه متقدم في وجوده على الوجود الاجتماعي؛ فالأصل في كل الحالات فردية الإنسان المستقلة وما المجتمعات سوى أفراد يمنحون المجتمع قيمًا حضارية وإنسانية. فالمعضلة تكمن حينما تتجه الثقافة المجتمعية إلى تذويب الفرد في كيانات وقوالب ثقافية ومجتمعية، وإن كان طرأ تغير جوهري في علاقة الفرد بالمجتمع، إذ لكل مجتمع نظامه الاجتماعي الخاص. ولكن الموقف الأمثل حيال قضية الفرد والمجتمع هو احترام حرية الفرد الأساسية، وتقييم خياره النهائي من النواحي التي تهم المجتمع العريض، وتقييم الآثار التي تترتب على هذا الخيار سلبًا أو إيجابًا. هذا من ناحية الفرد، ومن ناحية أخرى هنالك كثير من الظواهر الفردية التي قد تشكل - عندما تتكاثر ويتراكم أثرها - ظواهر اجتماعية تدرس من حيث أثرها في المجتمع كله، وينظر إليها من حيث كونها تيارًا اجتماعيًا، وهل الأثر النهائي لهذا التيار الاجتماعي على وفاق مع قيم المجتمع الذي يعمل فيه، أم أنه أثر سلبي يؤدي إلى خلخلة الأسس التي يقوم عليها المجتمع، أو على الأقل يؤدي إلى اضطراب المعايير الاجتماعية وتنشيطها في اتجاه الاختلال وعدم التوازن؟ هذا، ومعروف أنه من حق المجتمعات أن تعمل على حماية كياناتها والحفاظ على شخصيتها المتميزة بالصورة التي يجمع عليها أفراد تلك المجتمعات من غير مساس بالحق الأساسي للفرد. وحق المجتمع قد يقدم على حقوق الأفراد، غير أنه يتأكد ويتعزز بتأكيد حقوق أفراده، ولكن تبقى علاقة الفرد بالمجتمع علاقة تكاملية وتفاعلية.
مشاركة :