شهدت العقود الأخيرة تناميًا ملحوظاً لتأثير التوجهات الليبرالية في دول العالم، ومن بينها العالم العربي، حيث استطاع الاتجاه الليبرالي أن يفرض رؤيته الفكرية منذ تهاوي المنظومة الشيوعية في ثمانينيات القرن الماضي، وقد تبنى الترويج لهذه الفكرة بعض المفكرين في الغرب وبخاصة المفكر الأمريكي - الياباني الأصل – فوكوياما [Fukuyama]، والذي يعد من أبرز دعاة الليبرالية في الولايات المتحدة الأمريكية، معتبراً الليبرالية الأمريكية ما يطلق عليه الإنسان الأخير أو نهاية التاريخ وأساس التطور الحضاري والإنساني، والحل الأمثل لمشكلات الإنسانية والخيار الحقيقي للنهوض الحضاري باعتبارها الشكل الوحيد الذي ظل صامداً حتى نهاية القرن العشرين والذي يعده انتصاراً أبدياً للقيم الأمريكية. وقد لاقت هذه النظرية ردود فعل عريضة وواسعة على مستوى العالم إذ اعتبرت استعلاءً فكرياً وتهميشاً إقصائياً لحضارات عريقة، وقد وظف دعاة الليبراية في الغرب الفكرة الليبرالية من خلال المؤسسات والهيئات والمنظمات الدولية، وهو ما أكد عليه المفكر عبد الله العروي، حينما قال إن المنظومة الليبرالية لا تعمل بمفردها، بل توظف لمساعدتها مذاهب وهيئات دولية و [شخصيات سياسية]. وعلى الرغم من التدويل العلني وعولمة الليبرالية على مستوى العالم، إلا أنها واجهت مقاومة في بعض أجزاء من العالم، ومن بينها العالم العربي والإسلامي، مما دفع دول الغرب الصناعي وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الضغط السياسي - الثقافي الممنهج على بعض دول العالم العربي والإسلامي، خاصة أثناء غزو واحتلال أفغانستان والعراق. ولكن إذا ما نظرنا إلى الليبرالية في الخطاب العربي، فإننا لا نجدها تختلف عنها في نسختها الغربية من حيث التنظير، وإن اختلفت من حيث الممارسة والتطبيق. فالليبرالية الغربية قامت على تسلسل مرحلي، إذ لا يمكن عزل مرحلة عن أخرى. أما في العالم العربي، فقد اختزلت الليبرالية العربية المراحل التسلسلية لليبرالية الغربية إذ ينادي معظم الليبراليين العرب بضرورة التطبيق الفوري للمفهوم الليبرالي الغربي دون تغيير، وكأنه وصفة يمكن من خلالها حل معضلات العالم العربي. ولذلك سعت الليبرالية العربية إلى استنساخ العقلية الغربية ومحاولة إحلالها بديلًا عن الواقع العربي، وهو ما كان نادى به قادة الفكر العربي في ثلاثينية القرن الماضي كالدكتور طه حسين بالسير على طريقة أوروبا. قائلاً: إن الطريقة الحضارية واحدة فذة وهي أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة. وهذا يعبر عن اختلال فهم معنى الاستقلال عند الدكتور طه حسين، الاستقلال الثقافي والسياسي معًا. أو الدكتور زكي نجيب محمود عندما يقول «هذا التراث كله بالنسبة لعصرنا فقد مكانته، فالوصول إلى ثقافة علمية وتقنية وصناعية، لن يكون بالرجوع إلى تراث قديم، ومصدره الوحيد هو أن نتجه إلى أوروبا وأمريكا نستقي من منابعهم». أوسلامة موسى حينما يقول: «فنول وجهنا شطر أوروبا ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها ونؤلف عائلاتنا على غرار عائلاتهم». فالليبرالي الغربي يؤمن أن مرجعيته هي العقل وحده، سواء أكان العقل غربيًا أو شرقيًا، مع تحيز ظاهر للعقل الغربي انطلاقا من مركزيته الأوروبية. أما الليبرالي العربي، فقد اكتفي بالتماهي مع النسخة الغربية تنظيراً. ولوجود هذه الفروق الجوهرية بين الليبرالية في بيئتها الأصلية، ورجع صداها في العالم العربي، فقد شكك كثير من الباحثين في وجود ليبرالية حقيقية ذات مشروع تأسيسي بنائي، خصوصا في الجانبين الفكري والسياسي. إذ لا يوجد فكر ليبرالي عربي متكامل واضح كما يقول الدكتور أسامة الغزالي أحد رموز التيار الليبرالي العربي والعضو المؤسس لجمعية النداء الجديد، لأنه يعتقد أن «هذا الفكر حتى هذه اللحظة الراهنة، يبدو محاصرًا وغير قادر على بلورة ذاته». وإن كان الخطاب الليبرالي العربي اقتصر على «التبشير بمدنية وثقافة حديثتين، هما مدنية أوروبا وثقافتها، ولأن المنظومة الفكرية الغربية جاهزة، ولديها معطيات معرفية وأجوبة فكرية متنوعة ما يمكن أن تسعف به المنظومة الليبرالية العربية لإعادة إنتاجها في الثقافة العربية بغير جهد تأصيلي. لقد عاش التيار الليبرالي العربي حالتين متغايرتين: حالة الواقع الغربي بمده الحضاري. وحالة الواقع العربي الانكماشي، وقد وقف أنصار التيار الليبرالي العربي على الحالتين معاً خاصة ممن تداخلوا مع الغرب أثناء الاستعمار والحروب والبعثات ما أدخلهم في حالة صدمة حضارية أثمرت تعلقاً بالغرب ومكتسباته، واتخذت جانب المخاصمة لكل ما لا يتفق مع الغرب، حيث جعلت منه أساس مشروعها والتماهي مع الخط الليبرالي، سواء أكان في منطلقاته الفلسفية، أو في بناءاته النسقية.
مشاركة :