تثير الحرب الوحشية التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة، منذ أكثر من ستة أشهر، السؤال عن تعريف، أو تحديد معنى، النصر والهزيمة في هكذا حرب، وهي تختلف عن الحروب النظامية، كما تختلف عن حروب المقاومة طويلة الأمد، سيما لجهة عدم التناظر بين الطرفين. في مرحلة سابقة، أي مرحلة الحروب النظامية، كانت الإجابة على هذا السؤال سرعان ما تحيل على الانتصار، بدليل «صمود» النظام في هذا البلد أو ذاك، واستمرار إرادة الصراع لديها ضد إسرائيل، بغض النظر عن الكلفة الباهظة لتلك الحروب من الناحيتين البشرية والمادية، وضمنه احتلال إسرائيل لأراضي دول عربية. لكن، ومنذ انتهاء الحروب النظامية مع إسرائيل، وتحول مهمة مصارعة إسرائيل إلى منظمات مقاومة مسلحة، على غرار الفصائل الفلسطينية، مثلا، بدا وكأن خطاب الانتصار، خاصّة النظام الرسمي العربي، انتقلت عدواه إلى منظمات المقاومة تلك، حيث لم تقر المقاومة الفلسطينية بخسارتها الحرب في لبنان (1982)، رغم خروجها الى المنافي. وفي العام 2000 و2006 اعتبر حزب الله أنه حقق نصراً (إلهياً) على إسرائيل، على رغم أنه نجم عنهما وقف المقاومة ضد إسرائيل، ووجود القوات الدولية في الجنوب، وتحويل طاقة حزب الله إلى الداخل اللبناني، واستنزافه في الصراعات الداخلية اللبنانية، فضلاً عن انكشاف طابعة الطائفي/المذهبي، مع انكشاف مكانته كذراع إقليمية في لبنان، وقتاله السوريين دفاعا عن نظام الأسد. وعلى رغم أن انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة جنوبي لبنان (2000)، كما انسحابها من قطاع غزة (2005)، يعبّر عن عدم قدرتها على البقاء في هذه الأراضي، بحكم المقاومة لها، إلا أنه يعبر، أيضاً، عن نزعة واقعية لدى العدو في رؤيته لقدراته وإمكانياته، وفي إدارته لصراعاته، وكيفية تصريفه لطاقته، وهي أمور ينبغي احتسابها له، من دون مكابرة ومعاندة؛ ما يفترض إدراكها وتفهم مقاصدها لاستنباط النتائج المناسبة منها والتعامل معها. ففي خروج اسرائيل من تلك الأراضي، وفي الوقائع التي خلقتها باعتداءاتها، الوحشية والمتكررة، على اللبنانيين والفلسطينيين تمكنت إسرائيل من تجيير تلك الانسحابات والحروب لصالحها من خلال الوقائع التي فرضتها على حزب الله في لبنان وعلى الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وضمنها يأتي إنهاء المقاومة، وتحويل حزب الله إلى مشكلة في لبنان، وتحويل حماس وفتح الى سلطة، أو سلطتين، فضلاً عن إشغالهما في التصارع على الملفات الداخلية، رغم الفارق بينهما في الأجندة السياسية، وفي مفهوم كل منهما لمصارعة إسرائيل. القصد من ذلك التأكيد على أن عقلية المكابرة والمعاندة والإنكار مضرة وغير مفيدة، وقد تودي الى نتائج مضلّلة، إذ ثمة فارق كبير بين النصر وبين الصمود، كما ثمة فارق كبير بين القدرة على صدّ العدوان وبين التمكن من تكبيد إسرائيل خسائر في الأرواح والممتلكات. فوق ذلك فإن عقلية المكابرة والإنكار والعناد ربما تغطّي، أيضاً، على الواقع المتمثل في أن إسرائيل هي التي تمتلك ترسانة عسكرية لدولة عظمى، وأنها هي التي تهاجم وتقتل وتدمر، لأنها هي التي تمتلك الطائرات والدبابات والمدفعية وقوة النيران، حتى لو كان شعبها يذهب للاختباء في الملاجئ عند أول صافرة إنذار. وفي كل الأحوال فإن الفلسطينيين هم الضحية، وهم الذين لا يمتلكون إلا الأسلحة البسيطة، حتى لو كانت صاروخية، وهم الذين يفتقدون للموارد، وهم الذين يحتاجون إلى العطف والدعم والحماية، وهم الذين يتعرضون للاعتداء، وليست إسرائيل. ولعل إسرائيل، كما قدمنا، لا يهمها البتة كيفية تجيير مقاوماتنا للانتصار لأن مايهمها، في واقع الأمر، هو النتيجة العملية، وهي وقف المقاومة المسلحة نهائيا، ولا يهم إسرائيل ماذا سيحدث فيما بعد، فهي اعتادت على العيش بين حرب وأخرى وهدنة وأخرى، وفي واقع من اللا حرب واللا سلم لأكثر من ستة عقود، وهي لايهمها أن تعيش إلى الأبد على هذا النحو مقابل ألّا تفقد صورتها كدولة رادعة. طبعاً، هذا لا يعني بخس المقاومة حقها، فهي قامت بما يمكن أن تقوم به، وفق إمكانياتها، وقدراتها، كما أن هذا لا يقلل من صمود الفلسطينيين وشجاعتهم، واستعدادهم العالي للتضحية، فهذه أمور لم تعد بحاجة إلى إثبات، ولكن الحديث هنا يدور عن إدراك الحقائق والإمكانيات، وكيفية خوض السياسات. ولاشك أن ثمة من لا يريد أن يفهم المعاني المقصودة بمجرّد الإدعاء بأن المقاومة انتصرت، وهو أمر يمكن تفهمه، إذ كل فلسطيني يتمناه من كل قلبه، لكن المحاكمة العقلانية للأمور تستدعي، أيضاً، السؤال عن معنى هذا الانتصار حقا إذا نجم عنه وقف المقاومة؟ أو إذا نجم عنه استنزاف الشعب الفلسطيني أكثر بكثير من استنزاف إسرائيل، أو إذا نجم عنه اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم في نكبة جديدة؟ هذه مجرد أسئلة تطرح نفسها في إطار السجال الدائر بشأن معنى الانتصار والهزيمة في الحروب مع إسرائيل، ومن الواضح أن العدة المفهومية لإسرائيل وإدراكاتها لهذا الأمر تختلف تماماً عن عدتنا المفهومية وعن إدراكاتنا لهذه الأمور. ففي حين نحلّ الشكليات والشعارات محل الحقائق والمصالح، والعواطف والأمنيات محل الوقائع والإمكانيات، وثنائيات من نوع النصر والهزيمة، محل الواقع المركّب والمعقد، فإن إسرائيل تواصل العيش والاستقرار والتطور وإزاحتنا من المكان والزمان، على الرغم من كل «انتصاراتنا».
مشاركة :