للماضي عبقه وسحره، نستدعيه بعاداته وتقاليده التي غاب أغلبها، وكم نحن بحاجة للكثير منها في زمننا هذا، فمهما حاولنا أن نصف الماضي الجميل لن نستطيع، لا تغيب عن ذاكرة كل منا أطياف الأزقّة والحواري العتيقة، والأناس البسيطين، الذين نراهم سواء في المحال أو المطاعم أو المقاهي القديمة، ولا يغيب أيضاً جمال وحنين مداخل المنازل والمجالس التي تزهو برونق الماضي وأدوات الحاضر، ومنها عروق الشجر والطين وغيرها، وكذلك تستدعي الذاكرة القيم التي كانت تتسم بها جموع الناس، في البيوت الطينية، وما تشيعه تقارب البيوت من التآلف، والتقارب الأسري، والشيم، والقيم النبيلة، وهناك سلوكيات وقيم مجتمعية من شأنها أن تحفظ الود والأمن وتقف أمام المشكلات والاختلافات التي تحدث في أي مجتمع منها على سبيل المثال: (النقى والمعدال والنقف وإصلاح ذات البين من قبل المحكمين والصلح الذي يرضي الطرفين بإنهاء الخلافات وتنتهي في حينها وتمنع تطور الخلاف إلى ما لا يحمد وعقباه). أما النقف فهو آمر اﻹحضار للمدعى عليه، في قلة التعليم في ذلك الزمان، عبارة عن عود من الخشب سميك يعمل فيه شيخ القبيلة ثلاث إشارات في رأس العود وفي الوسط وفي الآخر، يسلم للمدعي لتسليمه للمدعى عليه وتحدد الجلسة بيوم السوق، حيث كانت الأسواق الشعبية ملتقى القبائل، وسوف نتطرق لها -إن شاء الله- في مقال آخر، وأنا شاهد عيان في ذلك الوقت الذي ليس بالبعيد، كان حضور شيخ القبيلة وأمير المركز حيث كان يُكنى بذلك في ذلك الوقت، وهناك محكمون في قضايا الخلافات والصلح وهم من العقلاء الذين يقومون مقام القاضي وأحكامهم نافذة ويعملون لوجه الله وبدون مقابل ويتنقلون بين القبائل، وأحياناً يحكمون باليمين المغلظة بعمل دائرة على الأرض يدخل في هذه الدائرة ويحلف اليمين المدعى عليه مع قاعدة «على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين»، وتنتهي الخصومة. كلمة (المعدال) في الماضي عندما يعتدي الجار على جاره أو على أي شخص آخر، فيسارع أهل هذا الرجل إلى منزل المُعتدى عليه ويقدمون له المعدال أغلى المقتنيات إما سيفاً أو جنبية أو بندقية حتى يعطونه الحق. ثم يأتي دور (النقى) يأخذون المُعتدي ومعهم من الوجهاء ويتجهون إلى منزل المُعتدى عليه وينادونه حتى يسمع نداءهم ويتم في النهاية التدخل حتى يتم العفو. هكذا كانت تسير الحياة، الفارق بين ما كان وما هو كائن الآن هو أننا كنا نعرف تفاصيل القرية وكل الأخبار، ونبذل كل ما باستطاعتنا لمساعدة الآخرين، في الماضي الجميل قصص وحكايات ومواقف وقيم جميلة تثير الحنين لكننا لا نعدم حظّنا من الحاضر وجماله وما يقدمه من رفاه في ظل ما نعيشه بفضل الله من أمن واستقرار ورفاه وحياة رغد في ظل قيادة حكيمة ووطن عظيم.
مشاركة :