كَشْفُ السِّتَار عن حالة ظُفَار للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (1)

  • 5/1/2024
  • 17:13
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

      ◄ الشيخ عيسى الطائي ذهب بصحبة السلطان تيمور بن فيصل في رحلة إلى ظفار     تحقيق: ناصر أبوعون الإنسان في منبته ونشأته (رحلة) انفلقت نواتها على هيئات ثلاث؛ رحلة (العقل) من الشك إلى اليقين، ورحلة (الروح)، من التيه إلى الإيمان، ورحلة (الجسد) في مناكب الأرض. وفي البدء كانت الفكرة، ومن رحم التأمّل في ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [سورة النمل:88] خرجت كلمة التوحيد، التي أخذت آدم الأول في رحلة طويلة بدءًا من مرحلة "التراب الميّت"، إلى أنْ "صار الطين الميّت بشرًا سويًا"، ومن خليّة طريّة على يسار القلب تخلّقت حواء؛ "لتبقى أصل الخلقة في الطبع" قطعة منه وتنتمي إليه؛ فسكن (إليها) روحًا، وارتحل بصحبتها جسدًا يتأملان سويًّا جنّة السماء العليا، ويمرحان معًا بين أفيائها، ويسرحان تنعُّمًا ما بين ظلال وعيون، فلمّا أن مسحت يدُ القدرة والمشيئة على ظهره خرج الذرّ مُسبحًا بوحدانية الخالق الباريء المصوّر بجميع صفاته وأسمائه وشاهدا على ربوبيته ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ [سورة الأعراف:172]، حتى إذا ما وقع ذاك (الطينُ) في حبائل الغواية طمعًا في (الخلود) "فَأَكَلَا من الشجرة ﴿فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ﴾[ سورة طه: 121]، فلمّا أفاقا من سَكْرَةِ المعصية وأيقنا أنهما وقعا في شِراك المطرودِ من رحمته، استدركا وندما وانكسرا تذللا أمام عظمة رحمته و﴿قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [سورة الأعراف: 23]، ﴿ثُمَّ ٱجْتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ﴾ [سورة طه: 122]، ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ﴾ [سورة طه: 123]؛ فكدّ آدم في شقائها، وكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة، وتناسل بنُوه وساروا على خطاه، وغذّوا السير في الجهات الأربع يطوون الأرض طيًّا، ويلتحفون السماء بحثا عن الحقيقة الكبرى، والإيمان الكامل، والتوحيد المطلق في "مقامات ثلاث هي؛ (عين اليقين): بالمشاهدة والمعاينة والبصر، و(حق اليقين): ما وجده وذاقه وباشره وعرفه بالاعتبار، و(علم اليقين): بالسماع والخبر والقياس والنظر" [مجمع فتاوى بن تيمية، ص: 645]، وتلك هي الغاية الإنسانية المثلى و"الحقيقة الكونية الكبرى".   ومن هذا المنطلق فإنّ السَّفر (المُباح)، والترحّل في مناكب الأرض بين مشارقها ومغاربها، والضرب في المفاوز والسهول والوديان، لرصد الظواهر والعادات، وتدوين التقاليد والمشاهدات والسياحة في الأقطار من مقتضيات كمال الإيمان؛ لِمَا يتحقق فيه من تحصيل المعايش والأرزاق والعلوم والتَّنزه والتفكّر والاعتبار. وفي هذا الشأن رصد العلماء خمسة أحكام فِقهية تدور عليها أحوال المسافرين؛ وهي: "الواجب، والمندوب، والمُباح، والمكروه، والمُحَرّم"؛ وعليه فإنّ رحلة الشيخ العلامة عيسى بن صالح بن عامر الطائيّ (قاضي قضاة مسقط) إلى (ظُفَار) والتي كانت بصحبة السلطان السيد تيمور بن فيصل (1886م- 1965م) يجري عليها (حُكم المُباح)، وفي هذا يقول الشنقيطيّ: "ويكون السفر مُباحًا إذا انتفت فيه الدوافع، سواءٌ أكانت للنّدب أم للوجوب، وانتفت فيه الموانع، سواءٌ أكانت للتحريم أم للكراهة، ومن أمثلته: السفر للتجارة، فإنه يُعتبر من المباحات، وهكذا السفر للنزهة والسياحة، فإنه يعتبر من الأسفار المباحة" [كتاب شرح زاد المستقنع، محمد بن محمد المختار الشنقيطي،ج: 65، ص:5]، وقد وردت الإشارة نصًّا إلى هذا النوع من السفر في قول الله – عَزَّ و جَلَّ-: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [سورة العنكبوت: 20]، "والسير في الأرض يفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين ولم يملَّها القلب - وهي لفتة عميقة إلى حقيقة دقيقة - وإن الإنسان ليعيش في المكان الذي أَلِفَه فلا يكاد ينتبه إلى شيء من مشاهده أو عجائبه؛ حتى إذا سافر وتنقَّل وسَاحَ استيقظ حِسُّه وقلبُه إلى كل مشهد، وإلى كل مظهر في الأرض الجديدة، مما كان يمرُّ على مثله، أو أروع منه في موطنه دون التفات ولا انتباه. وربَّما عاد إلى موطنه بحس جديد وروح جديد ليبحث ويتأمل ويعجب بما لم يكن يهتم به قبل سفره وغيبته. وعادت مشاهد موطنه وعجائبها تنطق له بعد ما كان غافلا عن حديثها؛ أو كانت لا تفصح له بشى ء ولا تناجيه" [في ظلال القرآن لسيد قطب - تفسير سورة العنكبوت - الآية 20].   وقد اقتضت الحال؛ التي قادتني ذات مشيئة إلى وضع دراسة أسلوبيّة في شعر الشيخ العلامة القاضي عيسى بن صالح بن عامر الطائيّ، تتبعتُ فيها قصائد ديوانه المنشور واحدة تلو الأخرى، بعد أن أصدرته (مؤسسة الرؤيا للصحافة والنشر) بالتعاون مع (مركز ذاكرة عُمَان)، بتحقيق الباحث حارث بن جمعة الحارثي، ومن قبلُ خُضْتُ تجربة الإقدام على إنشاء ترجمة أدبيّة لشخصيته العلمية ونشأته الاجتماعية، ودوره السياسيّ منشورة في المجلد الأول من موسوعة "الطائيون في عُمان"، فخبرتُ أسلوبه، وأزعمُ- على حياء مشوب بالخجل- أنني أَلْمَمْتُ بأدبه وفنونه، وتبحرتُ في فقهه، وعلومه، وأحطتُ بما وصل إلى يدي من آثاره ومتونه، وتبحثّتُ في أفخاذ قبيلته، واطلعتُ على نسبه وفروعه وأصوله، وقصصتُ أثره؛ فيما خَطَّتْ يده من تواقيع ورسائل ومكاتبات، وطالعتُ بعضا من أحكامه القضائية، وتمعّنت في نذرٍ يسيرٍ من معارضاته وأراجيزه ومنظوماته وسؤالاته الفِقهيّة، وقرأتُ مقالاته ومدوّناته ومراسلاته، الصُّحفيّة في العديد من منابر الإعلام الورقيّة التي توزّعت بين المشرق والمغرب. ولقد كانت هذه المطالعات فضلا عن كونها تطواف في جنبات حقبة غنيّة بالأحداث من تاريخ عُمان الحديث فإنها كانت رحلة بحثية مُغنية لكل باحث أريب، وزادًا معرفيًا لكل محقق لبيب. ثم امتدت لي بُسُط الهناءة حالَ طويتُ شراع السفين على شطآن مخطوطه الرِّحْلِيّ المعنون بـ(كشف الستار في حالة ظفار)، عندما وقعت عيني عليه مطويًا بين دفتي (مجموعة من القصائد والحكايات والسير ودروس النحو) بخط ناسخ مكين يسمى (عيسى بن عبد الله البشريّ)، وهي في أصلها من مجامع الأستاذ (محمد أبوذينة)، وما لبثتُ يسيرًا إلا وجدتُها مرقونةً ومصفوفةً في الصفحات الأخيرة من كتاب (قاضي قُضاة مسقط الشيخ عيسى بن صالح الطائيّ) للباحث الموثوق في علم التاريخ (محمد بن حمد العريميّ 2024)؛ الصَّادر عن (مؤسسة الرؤيا للصحافة والنشر)، ص:(295-338)، إلّا أنّ الباحث محمد العريميّ وهو المتمرّس في فنون البحث التأريخي الحديث، والمؤرخ الحاذق النبيه، والقاريء الحصيف في فصول الحضارة العُمانية والحواضر الناشئة والمتجذرة على جانبي الخليج، قد جمعها في كتابه لِمامًا، ولم يكلّف نفسه عناء التحقيق؛ بل أُشْكِلَ عليه، وذلك لقلةِ دُرْبته بعلوم اللغة وفِقْهها، ونحوها وصرفها، وفاته ما لحق ألفاظها من إعلال وإبدال وإقلاب وغيرها من بَدَهيّات القواعد العربية وإشكالاتها التي يطارحها العلماء على بساط الدرس والفحص؛ فجانبته التُّؤدة فلَمْ يعاود تقليب النظر فكان أسرع إلى تخطئة الناسخ ورفع الحرج عن المؤلف، فضلا عن إعطاء نفسه الحق في المحو والإثبات؛ فقد أعمل قلمه بالحذف والتغيير في بعض الفقرات، وطمس بعض المعاني والكلمات، وهو عمل يُنافي منهجيات قراءة المخطوطات وآليات الضبط والتحقيق العميق، والغوص في قيعانها لاستخراج ما بها من دُرّ وعقيق، والوقوف على لآليها، واستكناه أغوارها، وتوثيق فرائدها.

مشاركة :