نجاة مكي رحلة فنية انطلقت من عطّار والدها وبحر الإمارات

  • 5/7/2024
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ما يميز تجربة الفنانة التشكيلية الإماراتية نجاة مكي عن أقرانها من الفنانين هو تشبعها بالتراث وبعناصر من ثقافات بلدها لتخلق من خلالها عالمها الفني الثري، وهذا ما يرصده كتاب “التراث في فنون الإمارات: نجاة مكي نموذجا”، الذي يتناول مسيرة الفنانة وروافدها الفنية. عرِفت الفنانة التشكيلية الإماراتية نجاة مكي بعشقها لتراث بلادها، واتخاذها من الموروث الثقافي والشعبي لوطنها مصدر إلهام للكثير من أعمالها الفنية التي طافت العديد من بلدان العالم. وفي كتابه “التراث في فنون الإمارات: نجاة مكي نموذجا”، والصادر عن معهد الشارقة للتراث، يرصد الكاتب والأكاديمي عمر عبدالعزيز أهم المحطات في مسيرة الفنانة نجاة مكي، ويتوقف عند حضور التراث في أعمالها الفنية. عابر للمكان والزمان الشواهد والمشاهد التراثية شكلت المعنى الأول لالتماعات الطفلة الصغيرة التي فاضت تباعا بمنجزاتها اللونية التجريدية الشواهد والمشاهد التراثية شكلت المعنى الأول لالتماعات الطفلة الصغيرة التي فاضت تباعا بمنجزاتها اللونية التجريدية يسترجع عبدالعزيز تفاصيل العلاقة التي جمعت بين الفنانة نجاة مكي وتراث وطنها، وهي علاقة مبكرة بدأت كما يروي لنا مؤلف الكتاب، الذي توقف مليا أمام طفولتها المقرونة بدكان العطار، حيث كان والدها يمثل النموذج الواضح في فقه التمازجات النبيلة للعناصر. الصورة الفوتوغرافية الموروثة عن تلك الأيام من الربع الأول في الألفية الثانية الميلادية تقدم لنا منظر العطار الشارد في تأملاته الميتافيزيقية، القابع في قلب المعادلات الدائرية للألوان والروائح، الرائي للجهات الست المتوجة بالقوارير الشفافة الناصعة، والمحتويات الدوائية الطبيعية، ذلك أن محلات العطارين كانت بمثابة مشفى التشخيص للأمراض، وصيدلية الإسعاف لهم، ومكانا لأيّ عطار مجرب لن يباشر هذه المهمة الجليلة إلا بعد أن يكون قد أدرك بالمعرفة والذائقة تركيبة الجسم البشري، وطبيعة الأمراض السائدة، ومعنى الإكسير الدوائي الذي يصفه للمريض، استئناسا بكبار القوم أمثال ابن سينا وداود الأنطاكي والسيوطي. في محل والدها العطار كانت الروائح والألوان والتراتبية النسقية لظهور العناصر المختلفة تمثل نقطة الدهشة الأولى، التي اقترنت بأعماق اللاشعور عند الطفلة التي كانتها الفنانة، وسيلاحظ المتابع للأعمال الفنية لمكي ذلك الحضور الضمني لما تأثرت به والتبست بأحواله عندما كانت تتردد على دكان والدها في دبي، فالانتظامات السيميترية لجل أعمالها الفنية تومئ إلى المصفوفات النسقية التي كان يحرص عليها الوالد في تنظيم مواد المحل. ومن البدايات في محل والدها العطار، ينتقل بنا عبدالعزيز للحديث عن محطة أخرى في المسيرة الفنية لنجاة مكي، حيث يحدثنا عن الحضور البحري في أعمالها، وكيف أنعش في عوالمها الداخلية ذلك المزاج الأزرق الذي كان وما زال حاضرا في متواليات إنتاجها الفني البانورامي الواسع، منذ أن لاحظ والدها ميلها المتواتر للخربشة على أوراق المحل، حيث كان البحر الممتد وسيلة ترحال افتراضي نحو مجاهل اليابسة البعيدة والأمواج المرئية، وكانت الألوان تسطع بحميمية تواشجية مع السماء الصافية، فيما تعيد تأكيد دائرية الليل والنهار، وكانت كائنات البحر صفة مطلقة لتنوع الحياة وتعدد مشاربها وألوانها وجمالياتها، ومن ذلك البحر الخليجي المسافر صوب المحيطات، والذي وجدت فيه عناصر بداياتها اللونية. ويعود بنا عبدالعزيز من خلال صفحت كتابه “التراث في فنون الإمارات: نجاة مكي نموذجا”، إلى زمن الخمسينات في دبي، حيث ولدت نجاة مكي، وسط أجواء تحمل عبقا خاصا، حيث كان البحر شاهدا على لونه الأزرق المتناغم مع الأصفر والأخضر، وكانت المنازل الخشبية متراصة كالنخيل، وكأن المشهدين يتناغمان في حوار عابر للمكان والزمان، وكانت البيئة الطبيعية عامرة بالمباهج البصرية المتصلة بنعومة الفراغ وبهاء الألوان، وكان البشر ينسابون في سيرهم البطيء المدوزن، وكأنهم يستمدون الروح من مقامات الموسيقى الوجودية الكامنة في الطبيعة، والحيوانات من قطط ملونة، وأغنام مكتنزة بجدائل الشعر، ووسائل النقل المركوبة على ظهور الجمال والحمير. منذ انطلاقتها غاصت الفنانة في شفرات الفنون الشعبية المرتبطة بالأجواء النسائية وتحديدا العالم السحري لفنون الزخارف وقد شكلت هذه الشواهد والمشاهد المعنى الأول لالتماعات الطفلة الصغيرة التي فاضت تباعا بمنجزاتها اللونية التجريدية، ففي كل منطقة من مناطق الجغرافيا الأدائية الفنية لها، تحضر هذه الألوان، بل الأصوات، ليكتمل المقام اللوني بصريا، شاملا المقترحات الفنية المديدة بعديد الرؤى والمقاربات والأساليب. وكانت الموسيقى الوجودية المتصلة بفنون الغناء والأفراح والحرف والحيوات اليومية للمرأة الإماراتية، الصادرة من بحار الزرقة وأقواس قزح الشتائية، المقيمة في سرائر البخور والعطور، الصابرة على غياب رفيق الحياة في رحلات الضنى البحرية الطويلة. فقد كانت ثقافة الغوص المعادل الموضوعي للتشوق والانتظار والتوقعات، بل والأفراح والأتراح، وكانت المرأة في قلب المعادلة السيكولوجية الغامضة، وكان البحر الممتد وسيلتها للتوقع وانتظار الغائب الحاضر الذي قد يصل ظافرا فرحا، وقد لا يصل البتة. تلك الغوامض الشعورية للفتاة الصغيرة التي كانتها الفنانة، يجعلها مقيمة في زمن البحر وجمالياته، وتنعكس تلك الجملة البصرية في مصفوفة واسعة من أعمالها الفنية التي تزدهي بالأزرق والأخضر والأصفر. وهنا تصبح الزخارف شكلا من أشكال التداعي الحر، ضمن آفاق نسقية جمالية لا تتنازل عن التكوينات المفتوحة، والأمشاج المتصلة بعناصر الزمان والمكان، فالفراغات كالتلال الصحراوية المتكسرة، وأوراق النباتات المتناثرة في الفلاة، مصدر لترميزات ممعنة على مدها وجزرها في الإيقاع البصري، والتزاحمات في الرقش، كتقلبات الأيام. وبحسب صفحات الكتاب، فإنه منذ انطلاقتها المبكرة غاصت الفنانة نجاة مكي في شفرات الفنون الشعبية المرتبطة بالأجواء النسائية، وتحديدا ذلك العالم السحري لفنون الزخارف والرقش والنمنمات التي تستبطن خفايا المرأة وجمالياتها، فيما تعيد تأكيد تميمة جمالية تتصل بعوالم أرحب وأخفى. مجايلو نجاة مكي رؤى فنية تشكلها مخيلة طفولية رؤى فنية تشكلها مخيلة طفولية تستمر حالة الشغف لدى نجاة مكي بالتراث والفنون الشعبية، منذ الطفولة وحتى مراحل التعليم المختلفة وصولا إلى نيل شهادة الدكتوراه، والتي اختارت أن تكون حول العملات، فجاءت بمثابة بحث أنثروبولوجي فني عن العملات التاريخية، وما تضمنته من شواهد بصرية فنية وأبعاد ثقافية توخت فيها الدارسة نجاة مكي استرجاع القيم الفنية التي تضمنتها تلك العملات وتناسبها الطردي مع تواريخ التحولات الدلالية والمعرفية، ومقترحاتها الفنية ذات القيمة المستقبلية. ويؤكد لنا الأكاديمي عمر عبدالعزيز على أنه حرص في هذه المقاربة التي توقف فيها التراث كأحد مصادر الإلهام لدى التشكيلية مكي، على تقديم تجربة الفنانة الإماراتية الجسورة، بوصفها نموذجا لطاقة العطاء المستمر والدأب والإنتاج المستمرين على مدار مشروعها الفني الذي تفرد بعدم استكانتها للجاهز المألوف، وعدم قبولها بتكرار تجاربها في أكثر من معرض. من أجل تقديم صورة أشمل حول تجربة الفنانة نجاة مكي، وحضور التراث في أعمالها التشكيلية، فقد توقف عمر عبدالعزيز في كتابه أمام تجارب عدد من مجايلي الفنانة من الفنانين الإماراتيين والعرب، باحثا عن القواسم المشتركة بين تجربة نجاة مكي وتجارب هؤلاء الفنانين. وفي هذا السياق فقد تضمن الكتاب عددا من العناوين منها: عبدالقادر الريس وفن الغنائية البصرية المتصل بالبيئة المحلية، وفاطمة لوتاه وفلسفة الفراغات والأحجام الكبيرة، وعبدالرحيم سالم والواقعية التعبيرية المخطوفة بالتجسيم، وآمنة النصيري ومنهج الاستدعاء للتراث مع سيادة الهارموني الأخضر، وحسن البدوي ومنطق التجريب المتواصل، وحيدر إدريس والإقامة في التراث، ومحمد سامي والحضور الإنساني في أعماله. يذكر أن الدكتور عمر عبدالعزيز، كاتب وناقد وأكاديمي حاصل على شهادة الدكتوراه في فلسفة العلوم الاقتصادية من أكاديمية العلوم الاقتصادية ببوخارست، ورغم دراسته للاقتصاد إلا أنه عرف بشغفه وممارسته للفنون والآداب، وعمل منذ سبعينات القرن الماضي في مجال الإعلام والثقافة، ويشغل حاليا منصب مدير إدارة الدراسات والنشر بدائرة الثقافة بالشارقة، كما يرأس تحرير مجلة الرافد، ويرأس أيضا مجلس إدارة النادي الثقافي العربي بالشارقة، وقد حاز على العديد من الجوائز والتكريمات، وله العديد من المؤلفات في مجالات الاقتصاد، والقصة، والرواية، والنقد الأدبي والفني.

مشاركة :