منذ طفولتها لم تكن مريم مثل أي فتاة تحلم بابن الحلال الذي يأتي ليأخذها على حصانه،، لكنها كانت تحلم بابن الحلال العادي الذي يوفر لها الحد الأدنى من الستر وينتشلها من مستنقع الفقر. وعت مريم على الدنيا فوجدت نفسها الابنة الكبرى لوالدين يكادان يكونا معدمين، ولهما من الأبناء خمسة غيرها وأنهكت أباها الأيام في رحلة الصراع اليومي من أجل توفير لقمة العيش، وقبل أن يتجاوز عمرها الثامنة عشرة فوجئت بأمها تخبرها بأن عريساً تقدم لخطبتها. وفي اليوم التالي كانت الأسرة على أهبة الاستعداد لاستقبال العريس الذي حضر مع جارهم وجلسا في صالون الشقة ودخلت مريم كالفراشة الصغيرة للسلام عليهما، ولاحظت أن العريس يزيد عليها في العمر بخمسة عشر عاماً على الأقل لكنه كان وسيماً وتبدو عليه الصحة تحدث العريس عن نفسه قائلاً إنه عمل في إحدى الدول العربية لسنوات طويلة وكاد العمل ينسيه أن العمر بدأ يتقدم به، وأنه إذا انتظر أكثر من ذلك قد يفوته قطار الزواج، لذلك قرر إنهاء عمله في الخارج والاستقرار في الوطن، وقبل انتهاء الزيارة تم الاتفاق على كل التفاصيل. كان العريس يعتبر لقطة فسوف يتكفل بجميع مستلزمات الزواج وفي هذا كل الخير لوالدها الذي يشقى بتربية باقي أخوتها الصغار ، كما لم تكن مريم مرتبطة بأحد. وخلال أيام قليلة كانت الخطوبة تمت وخلال فترتها القصيرة أغدق عليها عريسها بالكلام المعسول، لكن الغريب أنه مع كل هذه الكلمات الجميلة الرقيقة لم يحضر لها هدية واحدة طوال فترة الخطوبة. بعد فترة قصيرة تم الزواج بلا حفل فقد رفض العريس إقامة الحفل واصطحبها إلى عش الزوجية كما رفض سفرهما لقضاء شهر العسل بحجة توفير النفقات وأنها مصاريف لا ضرورة لها. مرت الأيام بينهما هادئة في البداية لكنها جميعاً مرت في حالة تقشف فقد كان لديه دائما مبرر للتقشف وبعد فترة قصيرة من الزواج استيقظت على الواقع السيئ، فقد اتضح لها أن عريسها بخيل بصورة مرضية وبدرجة غير عادية وكل همه ينحصر في الحصول على كل شيء من دون أن يقدم شيئاً وينظر للحياة بنظرة مجردة من كل المشاعر والأحاسيس الإنسانية، ومع ذلك يتهمها بالسفه والتبذير وليت الأمر كان متعلقاً بشراء الملابس فقط التي يعتبرها أشياء تافهة يجب عدم تضييع النقود عليها بل حدد لها قائمة طويلة من الممنوعات التي لا ينبغي عليها الاقتراب منها، وحاولت في البداية إقناع نفسها بأن حالته الاقتصادية ربما تكون سيئة لكن يوماً بعد يوم كانت تتأكد من بخله وأنه إنسان أناني لا يفكر إلا في نفسه ومصلحته فقط، فكانت تحاول أن تصبر نفسها بأن هذه الصفات ربما تختفي منه بعد العشرة وإنجاب الأطفال وتغاضت عن عيوبه خاصة وأن الوقت كان قد فات على التراجع، وبعد شهور عدة شعرت مريم بجنين يتحرك بين أحشائها وكادت تطير من شدة الفرحة، واعتقدت أن زوجها سوف يشاركها فرحتها لكنه قابل الخبر بوجوم كبير خشية من المسؤولية القادمة ورفض ترددها على عيادة طبيبة أمراض نساء مجاورة لمسكنهما للوقوف على حالة الحمل، وعندما اقترب موعد الولادة رفض ذهابها إلى المستشفى، وطلب منها أن تكون الولادة داخل الشقة بمعرفة إحدى الدايات توفيراً للمال، ووصل عدد أبنائهما إلى ثلاثة أولاد وبنت ونشبت بينهما آلاف المشاجرات بسبب رفضه دفع مصاريف أولاده أو شراء احتياجاتهم، حتى إنه عندما يمرض أحدهم كان يرفض الذهاب به إلى الطبيب بينما لا يبخل على نفسه بشيء ودائماً أنيق ومهندم ويسهر خارج المنزل طويلاً ولا يتردد في الذهاب إلى الطبيب لأتفه سبب قد يلحق به، وعندما ضاقت بها الحال طلبت منه أن يعطيها مصروفاً شهرياً لتنفق منه على متطلبات المنزل لكنه ثار ثورة عارمة وكأنها ارتكبت ذنباً عظيماً وانهال عليها بالضرب والسب بأفظع الألفاظ وغادر المنزل وتركها مع أطفالها ورفض الإنفاق عليهم، فلم تجد أمامها سوى اللجوء إلى محكمة الأسرة وأقامت دعوى لإلزامه بالإنفاق على الأسرة. عندما وصل إلى الزوج الإعلان القضائي عن دعوى النفقة التي أقامتها زوجته قرر اللجوء إلى حيلة قام بها نجمه المفضل الفنان الراحل فريد شوقي في فيلم شاهده منذ أيام عدة على شاشة التلفزيون حتى يجعل المحكمة تحكم لزوجته بأقل نفقة ممكنة، وفي اليوم المحدد لنظر القضية دخل قاعة محكمة الأسرة وهو يتوكأ على عصاه مرتدياً ملابس أقل ما يمكن وصفها به أنها رثة، ووقف مستنداً على عصاه أمام هيئة المحكمة يقول: كسبت الكثير من الأموال خلال عملي سنوات طويلة خارج الوطن، وبعد عودتي وزواجي بددت زوجتي سامحها الله كل ما أملك على المظاهر الفارغة، ولم تعمل حساباً للزمن وفشلت في إقناعها بتوفير جزء ولو قليل من الثروة لمواجهة أي طارئ ورفضت أن نتقشف ولو قليلاً.. كنت أحبها من كل قلبي وألبي لها جميع رغباتها، لكن عندما نفدت كل نقودي بدأت تتهمني بالبخل وتفتعل معي الخلافات، وعندما خيرتها بين أن تتفهم ظروفي المالية أو أترك لها المنزل لم تفكر أو حتى تحاول مراجعة نفسها بل اتخذت القرار السريع، وطلبت مني مغادرة المنزل ورغم أني حاولت الاتفاق معها على دفع نفقة شهرية لها وللأطفال تتناسب مع دخلي الحالي لم ترض وأقامت ضدي هذه الدعوى تطالبني بدفع نفقة كبيرة لا تتناسب مع دخلي، أي دخل تقول عنه وهي تعرف عني كل شيء. سيدي القاضي إنني أمامكم وحالي تغني عن كل قول.. إن الأمراض تتصارع داخل جسدي حتى أصبحت لا أستطيع الوقوف على قدمي طويلاً. أنهى الرجل كلماته وهو يكاد أن ينتحب من شدة البكاء قائلاً: هذا كل ما أردت قوله وعليكم أن تقدروا النفقة التي تتناسب مع حالتي التي رأيتموها بعد أن أوضحت كل الأمور التي أغفلتها زوجتي في صحيفة الدعوى. تسلل اليأس إلى صدر مريم وظنت أن خدعة زوجها سوف تنطلي على المحكمة ونظراً للإحباط الشديد الذي أصيبت به لم تستطع الكلام وطلبت من هيئة المحكمة التأجيل، فاستجابت المحكمة لطلبها وفي الجلسة التالية كانت الأقدار قد تجلت لإظهار الحقيقة ووقفت الزوجة متمالكة لنفسها تقول: لم أكن أتصور أن زوجي قادر على الخداع بهذا الشكل إنه يرتدي الملابس الفاخرة ويقتني سيارة فارهة وينفق ببذخ شديد على نفسه وسهراته لكنه يدعي الفقر عندما أطالبه بالإنفاق على أطفالنا، ويجعل الجيران يسمعون صوته وهو يتهمني بالتبذير وعدم القدرة على تحمل المسؤولية فأي تبذير وأي مسؤولية يطالبني بتحملها؟ لو كان فقيراً لوقفت بجواره وتحملت معه لكن أن ينفق على نفسه الأموال الطائلة ويبخل على أولاده بالقليل فهذا ما لا أستطيع احتماله، وكأن الله أراد أن يكشف خداعه أمام عدالتكم فقد وصل خطاب إليه منذ أيام قليلة من البنك الذي يدخر فيه نقوده وثابت منه أن رصيده في البنك قارب مليون جنيه، ومع هذا يحرمني ويحرم أطفاله من النفقة التي تتناسب مع دخله الكبير. بعد أن استمعت المحكمة إلى الشهود الذين أكدوا أن الزوج على قدر كبير من الثراء، وأنه يدعي الفقر حتى يتهرب من التقدير الحقيقي للنفقة الذي يتناسب مع وضعه ومركزه المالي، صدرت حكمها بإلزامه بدفع نفقة شهرية كبيرة لزوجته وأطفاله الأربعة، وقالت في الأسباب إن النفقة على الزوجة والأطفال واجبة على الزوج شرعاً وتقدر بحسب حاله وقت استحقاقها يسراً أو عسراً، وقد تأكد للمحكمة يسر حال الزوج على غير ما حاول ادعاءه أمام المحكمة.
مشاركة :