تلك هي حياة الصحراء آنذاك، كما يصفها ثيسيغر. الرجال ينامون في ثيابهم بلا أغطية، ويأكلون ما تبقى من طعام الأمس، أو يخبزون أرغفة جديدة. ولفت نظره أن الناقة تصخب عاليًا عندما تحمَّل، فسأل كيف يمكن إسكاتها في الغزو، فقيل إنه يصار إلى ربط أفواهها لأن أصواتها تصل إلى ميلين. وأخبره البدو أن البعض يذبح البعائر ويستبقي النوق، لأنها قادرة على القيام بعمله ودر الحليب معًا. وكان الكلأ شحيحًا بصورة خاصة ذلك العام، لأن المطر لم يتساقط منذ ثلاث سنوات، غير «أنني كنت ألحظ عليقة صغيرة هنا، أو طيرًا ميتًا، أو عصفورًا صغيرًا، أو أرنبًا بريًا، أو برعمًا يبزغ من تحت الرمل». علاقة البدوي بالصحراء القاسية وعلاقته برفيقه ومساعده الأول، الجمل. يتوقف ثيسيغر طويلاً عند أسرار النوق: «إن كل رجل هنا في الصحراء يعرف الآثار الخاصة بجمله، وبعضهم كان في وسعه أن يتذكر آثار كل جمل رآه تقريبًا. من نظرة واحدة، كانوا يعرفون من عمق آثار الأقدام، إذا كان الجمل مركوبًا وحرًا. أو إذا كان محملاً. وبواسطة استقصاء الآثار الغريبة، كانوا يعرفون الوجهة التي أتى منها الجمل. فجمال الصحراء مثلاً لا أكعاب ناعمة في أقدامها، معلمة بجلد مسلوخ بالٍ، بينما إذا أتت من سهول الحصى تكون أقدامها مصقولة ناعمة. والبدو يستطيعون معرفة القبيلة التي ينتمي إليها الجمل، لأن القبائل المختلفة لها أنواع مختلفة من الجمال تُعرف من آثارها. كانوا يستنتجون المكان الذي رعى فيه الجمل من النظر إلى روثه، وبالتأكيد كانوا يعرفون متى شرب آخر مرة، وأين. والبدو مزوَّدون دائمًا بأخبار السياسة في الصحراء. فهم يعرفون التحالف والعداوة بين القبائل، وباستطاعتهم بالحدس، أن يعرفوا أية قبيلة ستهاجم الأخرى. والبدوي لا يفقد أبدًا فرصة نشر الأخبار مع أي شخص يلتقي به، وهو يسافر بعيدًا خارج طريقه ليحصل على أخبار جديدة. ومن وراء هذه الرحلة تبيّنت أن البلدة المحيطة بـ(مقشن) تعاني الأمرين من القحط، وذلك منذ بضعة أعوام. ولو كان هناك مرعى لوجدنا الأعراب يرعون قطعانهم، ولكننا أمضينا أربعة وأربعين يومًا دون أن نرى واحدًا منهم. كما سألت رفاقي عن السيل، أخبروني أن الماء لم يعد يصل إلى (مقشن) في جبال القرة منذ الفيضان الأكبر قبل خمس وعشرين سنة. وكان واضحًا أنها ليست مركز انتشار وتوالد للجراد الصحراوي».
مشاركة :