يستنطق الفنان الفوتوغرافي التونسي أمين بوصفارة تفاصيل المدن التونسية من أزقتها وشوارعها وحركات ناسها وما يتخللها من تفاصيل ليعيد سرد حكايات الناس بين ماضيهم وحاضرهم، وبهذا لا يكون الفن الفوتوغرافي مجرد تصوير توثيقي وإنما هو إرساء لتصور جمالي وفكري، يعيد حياكة الواقع وفق تصورات الفنان الذي أبدع في أعماله مشاهد ساحرة ضمها كتاب جديد بعنوان “تصوّر”. امتزاج الشغف مع الصورة وتفاعل المعايشة مع الأمكنة يجعل ما يراه العابر لحظة، يراه الفنان انتسابا وانتماء لروح تلك الصورة وقدرتها على تكثيف تصورات الباحث عن لحظة انغماس بصرية تُطلق جناحي الخيال نحو انتشال تلك المشاهد من رتابتها واختطاف لحظتها من أزمنتها، وهي الرؤية التي راودت الفوتوغرافي التونسي الفنان أمين بوصفارة، لينجز أو كما يعبّر هو ليبني كتابه “تصوّر”. هذه الرحلة البصرية مع الصورة، تعتبر انغماسا حسيّا يتداخل مع تفاصيلها، تلك التي علقت في الذهن والذاكرة واستدرجته أبعد في مواقفه الجمالية التي كان يراها في تونس، في كل تنقلاته في الأنهج والأزقة والممرات والساحات في المدن التي احتواها التاريخ في كل الأمكنة. انتشال جمالي تصوري الفوتوغرافي هو خيالي ورؤيتي تصوري الفوتوغرافي هو خيالي ورؤيتي يُفلت أمين بوصفارة بأمكنته التونسية من أزمنتها ويقبض فيها على لحظتها ويستعيد معها حميميّة التماس المباشر مع تفاصيلها حتى تنعكس مع ملامح ناسها، هي رحلة ومسيرة ومسار صاغها بوصفارة بالصور وحاكتها حروف ألفة بالحسين وهشام بن عمار وأريج مسعودي بالكلمات والتفصيل منذ رحلة الجدران الناطقة عبر رحلة المواطنة إلى رحلة الفن في الصورة البصرية ابتكارات التعبير بالصورة مفهوميا. ولعل هذا الكتاب البديع في تكوينه الحسي في التماساته المدهشة وفي انعكاس لقطاته المتكاملة مع التصوّرات المثيرة في كلماته وفي التعبير هو مزيج خارق الدهشة لمن يعرف مدى الاندغام البصري مع لذّة الصورة تلك التي حاكها وحكاها رولان بارت وهو يرتّب توصيفاته للعلامات التي تتركها في النفس والخيال والعواطف واللذات التي لا تقف عند المصوّر ولا الكاتب بل تستحيل نشوة متكاملة الجماليات عند كل من يتلقاها. تقول ألفة بالحسين في توصيف الحالة الشعورية التي تنتاب أمين بوصفارة وهو يسرد قصص الجدران ويستنطق التاريخ العابر منها ويتحرّك معها بالبعد التفصيلي في جماليات الأمكنة، إنه يواصل النهوض باكرا ليحتلّ الأمكنة ويتأمل تلك العمارة النادرة والحرفية التي استطاعت دمج الفن مع الهندسة، تلك الصنعة الإيطالية التي تحكيها العلامات التزويقية وتلك المنحوتات في المباني الفرنسية ثنائية الأبعاد التي تحمل الشرفات وتطلّ منها، فهل هناك من يتقن الآن هذه الهندسات والعمارة المليئة بالشغف والانتقالات الحسيّة من فكرة السكن إلى فكرة التساكن الكامل بين الفن والجمال والأمكنة، هذا ما استطاعته عدسة أمين بوصفارة إنه التأمل البليغ الذي يصلنا ونصله. وهو ما يقف بنا أيضا أمام التساؤلات المطروحة عن أهمية الصورة الفتوغرافية في عصر تمتلئ به حياتنا بالصور في كل مكان، هل مازالت الصورة تشد المتلقي؟ وهل هناك مجال لإدراك الذاكرة في تلك الصور؟ أسئلة يجيب عنها الكتاب الذي يحدث في النفس وقعا مختلف التأثيرات وانتشالا جماليا للانبعاثات التي تمزجها التصوّرات التي تطبع هوية تونس كما اقتنصها المصوّر في تصوّراته. تصور فوتوغرافي l تبدو الصور في تراتيب الرحلات التي سار فيها بوصفارة كمن يخبرنا عن دهشاته منذ لحظاته التأملية الأولى من سذاجة الرؤى إلى عمقها الرؤيوي الماورائي البعيد في علو القنص والاقتناص، وكأنه يقول ها أنا أجتاز الأزمنة وفي طريقي أصوّر أحلامي القديمة وهنا يكشف ذلك السر البنائي الذي صمّم وصاغ رحلته وتجربته وشغفه الذي لا ينضب. أمين بوصفارة أصيل مدينة المهدية التي أشعلت جذوة تعلّقه بالصورة واستدرجته نحو كثافاتها المتنوّعة في الأمكنة والتفاصيل من خلال نادي التصوير بدار الشباب بالمهدية، أصبحت الصورة تفصيلا يرافق رؤيته مهما انشغل عنها أشغلته ومهما غاب بها أعادته حتى يصقلها بالتأمل والبحث الجمالي، وبالبعد الماورائي للصورة والسفر اللامحدود عبرها في الحياة وفي اليومي في الماضي والحاضر في الحكايات التي تعبّر عنها العمارة والجدران والمشاهد وما يعلق فيها من عبارات ودلالات وصور وملصقات وخربشات. وهذا التفصيل يكاد يكون استنطاقا لتنوع الثقافات التي عبرت من وإلى تونس والتصقت بالتكوين الأول للتونسي فكانت الأثر والآثار التي رافقت الأزمنة والعصور وصمدت في حضورها الشاهد على ابتكارات الجمال وما تركته أيدي المعماريين من إيطاليا ومالطا وفرنسا، تلك العمارة التي تقيم في الأنهج والشوارع وتحاكي الحاضر الذي تقيم فيه وتصارع الاندثار فيه والماضي الذي تستعيده وتتجمّل بتفاصيله في ذاكرة العابرين. “تصوري الفوتوغرافي هو خيالي ورؤيتي وفلسفتي البصرية التي تحتضنها فكرة الحرية حتى ترتقي إلى أبعادها الجمالية وتحقّق معها صفة الإبداع”. وعاء بصري لا محدود استنطاق لتنوع الثقافات التي عبرت من تونس وإليها استنطاق لتنوع الثقافات التي عبرت من تونس وإليها الصورة في الصورة والصورة من الصورة الانبعاث والإعادة، الثبات والتجدّد من الهوية وفيها اختزال وثراء وإثراء كرونولوجي، البناء والترميم، هي التي اختار مفاهيمها الفنان بحكمة فنية ليبعث من الجدران قصة انعكست في الملامح كما وصف هشام بن عمار هذه الرحلة، حتى يترك المتلقي يمشي بحذر حسيّ، حتى لا تفلت منه اللحظة، يقطفها في كل ما بقي واندثر، محاكاة بصرية ورؤية استطاع أمين بوصفارة أن يحتويها بكل ما أوتي من مخيّلة ومواقف فنية وابتكارات جمالية وحسيّات تسرد مراحل الانتماء والمواطنة التي بدت بين الألوان وعبرها نحو الأبيض والأسود، وكأنها أيضا تعيد ترتيب المواقف بين التمرّد والخضوع وبين الحنين، الاستشراف تفاعل يفسّر الفرق بين التصوير والتصوّر وهنا يكمن الإبداع والتجدّد. الكتاب الذي يتضمن 85 صفحة عبارة عن منافذ مفتوحة ولذة حسية حركية تتنقل بشغف بين الأنهج والملامح عبر الجدران والشقوق بين الحاضر والماضي بين الهدم والبناء بين الهندسة الأصلية والترميم الحاضر. الصور تبدو في تراتيب الرحلات التي سار فيها بوصفارة كمن يخبرنا عن دهشاته منذ لحظاته التأملية الأولى هو عبارة عن تجربة أولى تحاكي مسيرة ورؤية بصرية متفرّدة تمشّيها لم يكن اعتباطيا بل مبنيا على مفهوم وقيمة وأساس وتدرّج تراتبي في اكتمالات بنيوية حاول تقصي أثرها حتى يخلق مجالا للتواصل بين الكلمة والصورة بين المتلقي والمصور والكاتب، كل حسب اللذة التي تعني حضوره في تفاصيل الأمكنة ورؤيته العميقة معها حتى يضمن بهذا البناء أو الكتاب. الإيواء الشامل الآمن الحسي والذهني للقارئ خاصة وأن أمين بوصفارة اعتبر أن المفهوم الأساسي لهذا البناء مرتكز على “التصوّر” في أسلوب الفتوغرافيا البصرية التي تعتبر الوعاء البصري اللامحدود في بعده الفني التشكيلي الذي يحمل الصورة كتقنية قابلة للتطويع الفني والمفهومي باعتماد الإضافات الرقمية والكولاج والخيال والمونتاج بحسب ما تثيره وتدفعه الرؤية والخيال في تلك الصورة وتصوّراتها التي تحوّلها من جمود اللقطة إلى حركة الواقع ومعايشات اللحظة ورمزية التفكيك للذاكرة، فالصورة عند أمين بوصفارة هي روائح وعبق ذكرى وذاكرة وفن.
مشاركة :