غالبًا ما تظهر أفكارنا مختلفة حين نحاول ترجمتها إلى كلمات على الورق، غالبًا ما تكون قصص الحياة ذات طابع مغاير لماهيتها إذما ترجمتها موهبة أدبية لرواية ببضع مائة من الصفحات، وإن كُتب للرواية أن تقع بين يدي السينما وأهلها وصناعها فلابد لها أن تخلع ثوبها مجددًا لتُصب في قوالب جديدة بها نكهات درامية وألوان موسيقية ومنعطفات قصصية أخرى ! من يدٍ إلى يد، وكل يد تعالجها بما ترتئيه. هكذا حينما سمع الأديب العبقري نجيب محفوظ بالقصة الحزينة القصيرة للص والقاتل "محمود سليمان أمين" انبثقت الخيالات تتفجر في خلايا الإلهام منه، وأهرق القلم فورًا مئات الصور والأماكن والشخصيات التي ما كانت لكن أوجدتها اليراعة الأدبية لضرورة الحبكة والدراما الروائية، وهكذا خُلقت نور، الغانية الجميلة الضائعة والغارقة حتى أذنيها في حب البطل الخارج عن العدالة، وهكذا كان رؤوف الشاب الجامعي اللامع الذي ملأ رأس اللص الفتي بحكايا عن البطولة والشجاعة وظلم المجتمع والإخلاص لقضايا الفقراء ومقت الأثرياء الذين ما انفكوا ينهبون جيوب الغلابة فقط ليجده البطل قد صار واحدًا منهم، ثريًا بكرش عظيم وغانيات كثر ومساعدين أكثر ومكاتب مكيفة فاخرة وضمير منعدم زلق. اللص والكلاب رائعة نجيب محفوظ الخالدة، سعيد مهران لص البيوت المحترف، الذي ذاع صيته وصار له يد في كل منازل الأثرياء، سعيد الذي يعرض عن حب نور غانية القهوة ويتزوج نبوية، المرأة الوحيدة التي خفق لها قلبه، فقط لتسلمه مع صبيه وتابعه عليش للشرطة، ويمكث سعيد في السجن أعوامًا وقلبه يحترق لخيانتهما وغدرهما، ثم يغادر بوابات السجن لتنفتح أبواب جهنم على كل من خذله، نبوية وعليش ورؤوف. لما قرأت عن اللص الحقيقي محمود أمين، وجدت آراء عدة تتحدث عن سعادته وقتها بدفاع الناس عنه وكيف أنه عد نفسه بطلًا مظلومًا وضحية أوقع بها بسبب مِن شر مَن حولها، وفهمت لماذا اختار محفوظ أن يقولب شخصية بطله هكذا، وهذا أكثر ما نفرني من الرواية، فقد كانت محاولة بناء ذكريات منه وطفولة وحب جذلٍ كل هؤلاء مخلوطة مع طفولة محفوظ نفسه، أو بمشاهداته الكثيرة في الحارة المصرية القديمة، وما كانت نور إلا لإضفاء نكهة الحب اللاذع والسحر المحرم في الرواية وماكان رؤوف إلا لأن البلدان لطالما حوَتْ مئات من رؤوف، لكنهم كلهم أبعد ما يكونوا عن محمود الحقيقي، قد لا يكون أحس بسعادة لدفاع أحد عنه، قد لا يكون أحس بالذنب يأكله وإلا ما استطاع رصاصه أن يحصد مزيدًا من الأنفس البريئة، لا أدري لكن سعيد مهران شخصية روائية قامت بسبب من مئات المقالات والآراء والانتقادات التي كتبت في محمود في حين ما كان محمود إلا إنسانًا، لكن إنسانيته شاهت فيما يتردى. الفيلم الذي كان من بعد الرواية أنتج عام "1962"، وسعيد كان شكري سرحان، في حين أدت شادية دورًا ساحرًا وهي تمثل هيام نور به، ويعج الفيلم بالموسيقى التصويرية وتتداخل فيه المشاهد المَزيدة عن الرواية، وهو ما حملني على التفكير في المعالجات التي تتم على النصوص، مذ كانت فكرة وليدة وحتى ترى النور كلمات فصورًا حية.
مشاركة :