إذا كان الموسيقي الإيطالي غايتانو دونيزيتي قد افتتح عمله خلال عقد الثلاثينات من القرن التاسع عشر بأوبراه التي لا تزال أكثر ما يقدم من إنتاجه حتى اليوم، «إكسير الحب» (1832)، فإنه آثر ألا ينهي ذلك العقد إلا بعمل ناجح آخر – وإن لم يرق الى مستوى العمل الأول – هو «ابنة الفوج» الذي، حتى وإن اعتبر عملاً ترفيهياً خالصاً من الصعب استخلاص أي درس أو عبرة منه، أوصل شهرته الى ذروتها وهو يقترب من عامه الخمسين، ولا تفصله عن نهايته سوى ثمانية أعمال لن يضيف معظمها الى مكانته الفنية كثيراً، إذا ما استثنينا أوبراه «دون باسكوالي» (1843). ولعل ما يجدر هنا قوله هو أن «ابنة الفوج» كانت نتائج سنوات عمله الباريسية، مثلها في هذا مثل «دون باسكوالي». والحكاية أن دونيزيتي كان في العام 1837 قد توقف عن تدريس الموسيقى في نابولي لينتقل الى باريس حيث كانت «إكسير الحب» قد قدمت بنجاح كبير بعد سنوات من افتتاحها في ميلانو. أي أن دونيزيتي حين قصد باريس كان معروفاً فيها على نطاق واسع، بخاصة أن عرض «إكسير الحب» قد تلاه هناك عرض كبير النجاح لأوبراه «لوتشيا دي لامرمور» (1835) المقتبسة من رواية بالاسم نفسه تقريباً للكاتب الانكليزي سير والتر سكوت. علماً بأن تلك المرحلة كانت تشهد نوعاً من الالتقاء بين مجالات الإبداع الأوروبية، فجاء دونيزيتي ليعزز هذا الالتقاء. > في باريس إذاً، حتى وإن كان دونيزيتي قد عاش شبه وحيد وشبه معزول اجتماعي أول الأمر، كان من الواضح والمنطقي أن أعماله كانت تمثل تأثيراً كبيراً على عالم الأوبرا. بل سرعان ما تمكن من أن يسيطر على عالم منظمي العروض وكاتبي النصوص الشعرية. ومن هنا لم يكن أسهل عليه في ذلك الحين، وبعد شهور من وصوله الى باريس، من أن يبدأ العمل على هذه الأوبرا التي كان من المنطقي القول انها إنما أنتجت برسم الجمهور الباريسي نفسه، علماً بأن نصها الشعري كان من كتابة الفرنسيين جول دي سان جورج وجان بايار. أما تقديمها الأول فكان في صالة «اوبرا كوميك» في باريس يوم 11 شباط (فبراير) 1840. والحقيقة انه على الرغم من النجاح الذي حققته «ابنة الفوج»، لم يفت النقاد أن يعلنوا أن دونيزيتي يسجل فيها تراجعاً على صعيد العمل ككل، عما كان قد وصل اليه في «لوتشيا دي لاميرمور»، قبل ذلك بخمس سنوات. غير أن هذا الحكم لم يسر، على اية حال، على الموسيقى نفسها، أو على الأقل، على جزء من موسيقى الأوبرا، ولا سيما تلك الأغنية الجماعية «سلاماً يا فرنسا»، التي اعتاد الجمهور الفرنسي ان ينشدها وهو واقف في الصالة. كان واضحاً أن الموسيقى القوية التي جعلها دونيزيتي لهذا النشيد، عرفت كيف تداعب وطنية الفرنسيين. وهي ما زالت تفعل هذا حتى اليوم. > مهما يكن من أمر، فإن أحداث هذه الأوبرا تدور في قرية سويسرية، حيث تطالعنا القوات السافوايردية وقد تمكنت من دفع الأعداء بعيداً، تخيم في مكان تستريح فيه ريثما تستأنف القتال. وفي بداية المشهد الاول (علماً بأن الأوبرا تتألف من مشهدين)، نرى الصبية الحسناء ماري (سوبرانو) – التي سرعان ما سنعرف أنها تلقب بابنة الفوج، بالنظر الى أن ظروفاً سنعرفها لاحقاً، جعلت جنود الفوج يتبنونها ويربونها كأنها ابنة كل واحد منهم -. ماري هذه سنراها تدخل الى كوخ مع العريف سولبيس، وهو يكاد يكون أباها الروحي الوصي عليها. ونجدهما يلتقيان هناك المركيزة بيركنفلد العابرة وهي في طريقها الى قصرها في المنطقة. والمركيزة تعبّر هنا عن خشيتها من أن تكون الطريق غير آمنة بما فيه الكفاية، وتطلب من العريف أن يؤمن لها حرساً يخفرها طوال الرحلة. لكن العريف ما إن يسمع اسم المركيزة حتى تعود به الذاكرة سنوات الى الوراء، ليستعيد ذكرى نقيب في الجيش يدعى روبير، يحمل اسم عائلة المركيزة نفسه وكان قد انخرط في تلك القوات. وكان هذا الضابط قد سقط قتيلاً خلال العراك، لكنه قبل أن يغمض عينيه عهد بطفلته الصغيرة ماري الى الفوج، وتحديداً الى العريف سولبيس نفسه. وبناء على هذه الذكريات، تعرفت المركيزة العابرة في ماري على ابنة لواحد من إخوتها، كان، وفق ما تؤكد المركيزة عقد زواجها سرياً مع فتاة لا يعرفونها، كانت ماري ثمرته. وهكذا تتخذ المركيزة قرارها بأن تصحب ماري معها الى القصر، بغية أن تؤمن لها تعليماً يناسب سنها ومكانتها. والحقيقة أن هذا القرار يملأ بالحزن أفئدة الجنود كما فؤاد ماري نفسه. فهم اعتادوا عليها وهي اعتادت عليهم. فكيف تفارقهم الآن؟ صحيح أن ماري تبدو، بعد كل شيء، سعيدة لكونها عثرت على عائلة ومكانة، غير أنها لن تغادر الفرقة، لا والمرارة تملأ قلبها. بل سنفهم انها حزينة في شكل خاص، لأن هذا الرحيل يفرقها عن واحد من الجنود هو السويسري طونيو، الذي، حتى وإن كان ينتمي الى القوم الأعداء، تبع هواه وحبه وانضم الى أعداء جنسه لمجرد أن يكون الى جانب حبيبته وفي عداد قومها... وسنعرف انه تكبد في سبيل ذلك الانتقال ألف صعوبة وصعوبة. كما سنعرف أن ماري ارتبطت بقصة حبها معه، دون أن ترضى بالزواج منه خوفاً من أن تغضب سولبيس الذي ما كان يريد لها أن تتزوج غريباً ينتمي الى الأعداء. > ننتقل في الفصل الثاني الى القصر بعد ذلك بعام، حيث بدأت ماري تعتاد على حياة اليسر والغنى بعد شظف العيش بين الجنود... ان كل شيء يحيط بها مترف وأنيق. بل ها هي تتلقى دروساً في الرقص، كما تتلقى دروساً في السلوك الحسن. غير أن هذا كله سرعان ما يغرقها في الملل. أما عزاؤها الوحيد فلم يكن سوى الزيارات التي يقوم بها، من حين الى حين، الى القصر عدد من الجنود الأصدقاء وعلى رأسهم طبعاً سولبيس، وطونيو الذي ترقى الآن ليصبح ضابطاً. وهكذا واصل العاشقان علاقتهما متواعدين على العيش معاً حين تسنح لهما الظروف بذلك. غير ان هذه الآمال سرعان ما تخبو حين تعلن المركيزة دون سابق إنذار، انها توافقت مع الدوق الثري كراكنترو، على اقترانه من ماري. ولم تكتف المركيزة بهذا الإعلان المفاجئ، بل أسرّت كذلك لسولبيس المذهول انها ليست في حقيقة أمرها، عمة ماري، بل أمها، طالبة منه أن يقنع الصبية بضرورة وحتمية إتمام تلك الزيجة، خصوصاً أنها كانت قد عينته رئيساً لحراس القصر. وبالفعل يحاول سولبيس فعل ما أمرته به المركيزة... وفي اليوم المعين للزفاف تصل فرقة من الفوج عازفة الموسيقى وعلى رأسها طونيو الذي من الواضح انه لا يريد الاستسلام، كما أن حبيبته لا تريد الاستسلام كذلك. وهكذا إذ كان أعيان المنطقة وكبار نبلائها قد اجتمعوا للاحتفال باقتران واحد منهم من ابنة هذه الكبيرة بينهم، وهم يعتقدون المركيزة عمة العروس، يحدث ان طونيو يكتشف سر أمومة المركيزة لماري، ويقوم بإعلان الأمر غاضباً أمام الحضور، الذي لاستيائهم من المركيزة لما فعلته في الماضي ولما تحاول ان تفعله الآن، ينسحبون من الحفل غاضبين. كذلك تنسحب الفرقة وعلى رأسها طونيو... وأمام ما يحدث لا يكون أمام ماري إلا أن تنسحب بدورها تابعة طونيو. وهكذا يسقط في يد المركيزة وتتخلى عن مخططاتها، ما يجعل في إمكان ماري وطونيو أن يتزوجا ويسعدا بغرامهما. > إذاً، على هذه الحكاية ذات التقلبات المسرحية (والسيكولوجية – الطبقية بخاصة) لحّن غايتانو دونيزيتي (1797-1848) هذه الأوبرا الطريفة والخفيفة، التي اشتغل فيها على الموسيقى، اشتغالاً اوروبياً، أكثر منه ايطالياً، حيث مثلاً، في مشهد وداع ماري نهاية الفصل الأول، جعل أغنية طونيو الوداعية تغنى على موسيقى النفير الانكليزية، أما الأغنية الأشهر، والتي سبق ان أشرنا اليها أعلاه «سلاماً يا فرنسا» فيجعلها الموسيقي ذات لحن فرنسا، كما ملأ الفصلين بألحان عسكرية سويسرية وبما يشبه غناء الحطابين المعروف في غابات جبال الألب. وهذا كله أضفى على العمل «الخفيف» والميلودرامي» بعداً كوزموبوليتياً لا شك فيه.
مشاركة :