يقول الرسول محمد عليه أفضل الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى عن اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة». وفي رواية أخرى لعبدالله بن عمر رواها الترمذي «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى عن اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي». ولعل الزيادة أو الإضافة في الحديث الذي رواه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، كما رواها الترميذي وابن ماجة التي لم تذكر في رواية أبي هريرة قد أوقفت بعض المفكرين الدينيين عند قصدية وغاية تلك الإضافة وصحتها، والوقفة هنا تجوّز لأي متهور ديني أو متطرّف ديني إشاعة منطق التكفير على كل من لم يتوافق سلوكه الديني مع سلوكه. وينكر بعض العلماء الزيادة في روايات عبدالله بن عمر ومعاذ وعبدالله بن عباس -رضي الله عنهم جميعا-، لأمرين: «أولهما: قول الرسول الكريم في الزيادة التي ساقها الترمذي «كلهم في النار إلا ملة واحدة»، وقد علمت أن الملة هي الدين، ولا يعبر بها عن الفرقة، وملة الإسلام تشمل الفرق التي تكاثرت فيه. ثانيهما: أن الرسول الكريم قال في صدر الحديث «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى.. إلخ» فكان التقابل يقتضي أن يقول «ويتفرق المسلمون إلى ثلاث وسبعين فرقة» لوكان المراد بالفرق تلك التي يتفرق إليها المسلمون، فلِما خالف رسول الله مقتضى المقابلة فعبّر بكلمة «أمتي» بدلا عن كلمة «المسلمين» دل على أن مراده بالأمة عموم أمة الدعوة. فهذا الفهم لكلمة الأمة في الزيادة التي ساقها الترمذي وآخرون، ينسجم مع سياق الحديث ويفتح سبيل التوافق والانسجام مع الأحاديث الكثيرة المؤكدة بأن من لقي الله مؤمنا بوحدانيته لا يشرك به شيئا دخل الجنة». كما أن هذه الزيادة قد تفتح باب الجواز في تكفير الفرق الإسلامية لبعضها البعض وهو ما فهمه متطرفو السلفية مما جعلهم يجوّزون تكفير كل مخالف لهم. ولعلنا هنا نقف أمام قصة أسامة بن زيد واليهودي الذي نطق الشهادتين، فعندما بعث الرسول الكريم بسرية بقيادة أسامة بن زيد لتأديب قرية «فدك» وهي قرية يهودية شمال المدينة المنورة، وعندما علم أصحاب القرية بقدوم السرية هربوا إلى الجبال ودخل المسلمون وهم يكبّرون ويهللون، ونزل رجل يهودي اسمه «مرداس بن نهيك» يكبّر مع المسلمين ويقول «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، فقتله أسامة وعندما بلغ هذا الأمر إلى الرسول الكريم حزن حزنا شديدا وقال: «قتلوه قتلهم الله» وكان أسامة بن زيد يطلب من الرسول الكريم أن يستغفر له على قتل الرجل، فرد عليه الرسول الكريم أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله؟! كيف إذا خاصمك بلا إله إلا الله؟. فقال أسامة يا رسول الله إنما يتعوذ من القتل، قال الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام والقدوة للعالمين، هلاّ شققت عن قلبه لتعلّم خوفا أم لا؟ وهذه القصة تُرسّخ لنا عدة قواعد في فقه المعاملة في الإسلام العظيم وهي: * إن لا أحد فوق المساءلة والحكم، فقد خضع أسامة لمساءلة من قِبل الرسول الكريم لمقتله اليهودي الذي أشهر إسلامه، وكلنا نعرف المكان الرفيع الذي كان يحظى بها أسامة عند الرسول الكريم. فالقيمة تغلب المرتبة، وهذه المسلّمة هي التي ينبني عليها الإسلام وتُصاغ في ضوئها منظومة المساواة بين المسلمين. كما أن مساءلة أسامة -رضي الله عنه- هي دليل على أن لا عصمة لأحد أو حصانة فالكل في ظل الشريعة يتساوى، وتلكم إشارة أن ما يدعيه بعض رجال الدين من عصمة الرأي والفكر والاستنتاج القائم على شبهة الظن والتأويل هو باطل وقد يجرى الأمة إلى فتنة دينية. * إن حماية المسلم قائمة على ما يُظهره لا ما يُبطنه، وبالتالي فكل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله مّحرم دمه وماله وعرضه وإن استبطن من الشبهات ما يُفسد العقيدة، فلا حكم لبشر على باطن المرء مهما أدعى الحاكم من نزاهة التقوى وجازمية وكمالية التحري والاستقصاء وصحتهما. وقد يرى البعض أن حديث المرء شاهد باطنه، وهذا الرأي غير صحيح؛ لأن حديث المرء لا يقتضي بالضرورة شاهد اعتقاد، لأن أي حديث قد يخرج عن دائرة الاعتقاد إلى دوائر أخرى مثل التحليل والتبين والاستزادة وتوثيق اليقين أو الإضافة. ولذلك فاستنتاج الكفر ليس بكفر كما أن التأويل الدافع إلى إحداث كفر ليس بكفر. فلو ترك تحديد ماهية اعتقاد الأفراد وفق أحاديثهم دون التصريح الجازم ووفق ما يظن المستمع إليه أو المترصد له مع السبق والإصرار لأجاز كل لنفسه تكفير من لا يعجبه حديثه. إن إخراج المرء من دينه بتكفيره بوسيلة الظن والاحتساب والتأويل أثبتت الأيام أنه فعل جرّ على الأمة الويلات والأزمات. إن فكرة التكفير نشأت أول ما نشأت عند الجماعات الدينية المتطرفة وكان الهدف منها تصفية المخالفين لهم في الرأي وليس كما يزعمون المخالفين لهم في الاعتقاد. * حسن الظن مُقدّم على سوء الظن لِم في ذلك من حماية من الوقوع في ما يفسد عقيدة المرء من جانب، وما يُسبب العدوة والبغضاء بين المسلمين من جانب آخر. * كل من شهد الشهادتين هو مسلم لا يُنعت في دينه بالسب والقذف والافتراء والشك. * إن الشهادتين تجمع المسلمين على ذات الحق، ولا يُستثنى منها بذريعة التوجس أو استباقية الخطر باعتبار الاستبطان أو التأويل. * لا يجوز تكفير من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله أو قتله في ساحة حرب أو خلاف صراع. * إذا كان الرسول الكريم قد حرّم قتل مسلم أحاطت بإسلامه شبهة التقية أو الاضطرار، فذلك ما يمكن القياس عليه بأن قتل مسلم يشهد الشهادتين دون شبهة اضطرار هو أيضا حرام. لكن من أغلق الشيطان قلبه ظلما وغواية نسي مبادئ الإسلام الحق دين السلام والرحمة. ولا حول ولا قوة إلا بالله. - سهام القحطاني مقالات أخرى للكاتب المحاصصة الفكرية..«الظلامي والتنويري» (2) المحاصصة الفكرية (1) العرب.. وإيران «الفارسيون الجدد»(1) الديني.. وحرية الفكر «الصليبيون الجدد» (6-6)
مشاركة :